إن من الخصال الحميدة التي حث عليها الإسلام حفظ السر، فالسر أمانة، وقد أمر الله عز وجل بحفظ الأمانات، وإفشاء الأسرار فيه الدلالة على سوء خلق فاعله، فإنه مدعاة إلى إفساد ذات البين وتخريب البيوت، وهذا ما لا يرضاه الله عز وجل لعباده ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
ما جاء في حفظ السر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال:
(أتى عليَّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأنا ألعبُ مع الغلمانِ . قال فسلَّم علينا . فبعثني إلى حاجةٍ . فأبطأتُ على أمي . فلما جئتُ قالت : ما حبسك ؟ قلت : بعثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لحاجةٍ . قالت : ما حاجتُه ؟ قلتُ : إنها سرٌّ . قالت : لا تُحدثَنَّ بسرِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أحدًا . قال أنسُ : واللهِ ! لو حدَّثتُ بهِ أحدًا لحدَّثتكَ ، يا ثابتُ !)(1) وأنس بن مالك رضي الله عنه هو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، حيث قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولـأنس عشر سنوات، فخدمه حتى كان عمره عشرين سنة حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فـأنس بن مالك صحب النبي صبياً وشاباً، وفي أثناء خدمته له يقول أنس : (أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان فسلم علينا فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ - أمه هي أم سليم رضي الله تبارك وتعالى عنها - فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟) يعني: تريد أن تعرف هل يستحق ذاك المشوار كل هذا التأخير؟ لكن ماذا كان جواب أنس الغلام الصغير؟ قال: (قلت: إنها سر).يعني: لن أكشف عن حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت رضي الله عنها: (لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً)، انظر إلى الأم المطيعة لله سبحانه ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، الأم الطيبة القانتة المؤمنة تعلم ابنها حفظ السر حتى عنها.فكل أم يلزمها أن تعلم ابنها كيف يحافظ على السر، فإذا جاء الأب وقال للابن: خذ هذا المبلغ واذهب به إلى فلان ولا تقل لأحد، فلا يرجع ويقول لأمه: أبي بعثني لأفعل كذا في كذا، وإذا فعل فالواجب على الأم أن تقول له: لا يجوز لك ذلك، فهذا سر من الأسرار فلا تفش سر أبيك، وعلى الأم أن تعلم الابن ألا يكون كثير الكلام، وألا يفشي أسرار البيت، فإذا تربى الطفل على ذلك كانت هذه عادته عند الكبر، ويستحيل أن يستفيد منه الأعداء أو يحصلوا منه على أسرار بلده.فـأنس هنا لما قال لأمه ذلك قالت أمه رضي الله عنها: (لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، قال أنس - رضي الله عنه -: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك به يا ثابت) ، وثابت هذا هو تلميذ أنس ، وهو من التابعين وليس صحابياً، فهو جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم بزمان، ومع ذلك يقول أنس : إن سر النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما أخبرت به أحداً إلى الآن، ولو كنت أحدث به أحداً لكنت حدثتك أنت، ومعنى هذا: أنه كتم السر حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
مع أنه لا يلزمه ذلك، وهذا ظاهر في حديث السيدة فاطمة رضي الله عنها، ولكن مع ذلك حافظ على سر النبي صلى الله عليه وسلم.
أهمية حفظ السر والتحذير من التفريط بالأمانات
الأسرار أمانة، فإذا جاء إنسان يكلمك بصوت منخفض فلا ترفع صوتك بالكلام حتى لا تفضح هذا الإنسان الذي يخفض صوته، وإذا ائتمنك على سر فلا تخبر به أحداً، وإذا حدثك وهو يلتفت حتى لا يراه أحد، فمعنى هذا أن كلامه هذا سر فلا يجوز لك أن تضيع هذا السر أو أن تفشيه لأحد من الناس، ويجب عليك أن تعلم أبناءك أهمية حفظ السر، ولا تظهر الفرح إذا رجع ابنك يوماً من المدرسة وقال لك: إن رفيقي قال لي سراً وهو كذا وكذا، ولكن علم ابنك أن يتقي الله وأن يراقبه سبحانه ولا يحدث بسر استودعه إياه أحد من الناس. وقد كان أهل الجاهلية يعرفون أن الأسرار لا ينبغي أن تنشر لأحد، وكانوا يعيبون على من يفعل ذلك،
الإنسان المؤمن من خلقه أن يحافظ على السر، ودافعه إلى ذلك خوفه من الله، لأن الله يقول:
( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء:58]،
فهذه أمانة يجب أن تؤديها لأهلها، وذكر عن بعض الصالحين أنه ذهب إليه إنسان وقال له: أخبرك سراً فلا تحدث به أحداً، أخبرك بكذا وكذا وكذا، هل سمعت ماذا قلت لك؟ قال: لم أسمع شيئاً. يعني: من مبالغته في حفظ السر كأنه لم يسمع شيئاً! فالمسلم إذا سمع سراً كان السر في باطنه لا يخرجه لأحد أبداً إلا أن يأذن له صاحب هذا السر.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على أداء الأمانات.