*القسم الثاني : الشفاعة التي تكون في الآخرة ـ يوم القيامة ـ .
فأما الشفاعة التي تكون في الآخرة فهي نوعان :
🍃النوع الأول: الشفاعة الخاصة:
وهي التي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة لا يشاركه فيها غيره من الخلق وهي أقسام :
أولها: الشفاعة العظمى:
وهي من المقام المحمود الذي وعده الله إياه ، في قوله تعالى " وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا"سورة الإسراء:79. وهي الأولى، التي يشفع فيها عند الله عز وجل، ليأتي لفصل القضاء، وهي التي يرغب إليه فيها الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم.
وحقيقة هذه الشفاعة
إِنَّهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ اللهُ الْخَلْقَ، وَيَلْحَقُهُمْ مِنْ الشِّدَّةِ مَا لا يُطَاقُ وَلا يُحْتَمَلُ.إِنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَحْصُلُ فِيهِ الكَثِيرُ مِنَ الْكُرُوبِ وَالأَهْوَالِ، وَلا يَنْجُو إِلَّا مَنْ عَرَفَ اللهَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، فَوَحَّدَهُ، وَأَطَاعَهُ.
فأهل الموقف حينما يوقف الناس بين يدي الله للحساب حفاة لا نعال لهم، عراة لا ثياب عليهم، غرلًا غير مختونين، بُهمًا ليس معهم شيء، ويشتد الحرُّ، وتدنو الشمسُ من الرؤوسِ، ويزادُ في حرارتِها فيكون يومًا عصيبًا، فيموج الناسُ بعضهم إلى بعضٍ.
قال صلى الله عليه وسلم "إنَّكُمْ مُلاقُو اللَّهِ حُفاةً عُراةً مُشاةً غُرْلًا." صحيح البخاري .
وقال صلى الله عليه وسلم"يُبعثُ الناسُ حُفاةً عُراةً غُرلًا ، قد ألجَمهم العَرَقُ ، وبلَغَ شُحومَ الآذانِ، فقلتُ : يُبصِرُ بعضُنا بعضًا ؟ قال : شُغِلَ الناسُ ،لكلِّ امرىءٍ منهم يومئِذٍ شأنٌ يُغنِيِه"الراوي : سودة بنت زمعة أم المؤمنين - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترغيب- حسن لغيره.
".....ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ "الحديث. رواه البخاري :4343 - ومسلم : 287 .
قال القرطبي رحمه الله تعالى" وقوله : أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ ، فيقال.يا محمدُ، أَدخِل الجنة من أمتِكَ من لا حساب عليه ، هذا يدل على أنه شُفِّع فيما طلبه من تعجيل حساب أهل الموقفِ، فإنه لما أُمِر بإدخال من لا حساب عليه من أمته، فقد شُرِع في حساب من عليه حِساب من أمته وغيرهم" انتهى من"المفهم" 1 / 437.
وقال صلى الله عليه وسلم "يَحشُرُ اللهُ العبادَ -أو الناسَ- عُراةً غُرلًا بُهمًا، قلنا: ما بُهمًا؟ قال: ليس معهم شَيءٌ، فيُناديهم بصوتٍ يَسمَعُه مَن بَعُدَ - أحسَبُه قال: كما يَسمَعُه مَن قَرُبَ- أنا المَلِكُ لا يَنبغي لأحَدٍ من أهلِ الجَنَّةِ يدخُلُ الجَنَّةَ، وأحَدٌ من أهلِ النارِ يطلُبُه بمَظلمَةٍ، ولا يَنبغي لأحَدٍ من أهلِ النارِ يدخُلُ النارَ، وأحَدٌ من أهلِ الجَنَّةِ يطلُبُه بمَظلمَةٍ قُلتُ: وكيف؟ وإنَّما نأتي اللهَ عُراةً بُهمًا؟ قال: بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ."الراوي : عبدالله بن أنيس - المحدث : شعيب الأرناؤوط- المصدر : تخريج العواصم والقواصم -الصفحة أو الرقم: 3/ 222 - خلاصة حكم المحدث : حسن
الشرح:إِنَّ اللهَ يُرِيحُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ الْعَصِيبِ بِشَفَاعَةِ رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشَّفَاعَةَ الْعُظْمَى، بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ عَنْهَا أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، حَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَخَافُ وَيُحْجِمُ عَنِ الإِقْدَامِ عَلَى الشَّفَاعَةِ مِنْ شِدَّةِ الْمَوْقِفِ وَهَوْلِ الْمَطْلَعِ.
فيشفع صلى الله عليه وسلم لجميع الخلق حين يؤخِّر اللهُ الحسابَ فيطول بهم الانتظار في أرض المحشر يوم القيامة فيبلغ بهم من الغم والكرب ما لا يطيقون ، فيقولون: من يشفع لنا إلى ربنا حتى يفصل بين العباد، يتمنون التحول من هذا المكان ، فيأتي الناس إلى الأنبياء فيقول كل واحد منهم : لست لها، حتى إذا أتوا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول"أنا لها" صحيح مسلم. فيشفع لهم في فصل القضاء ، فهذه الشفاعة العظمى، وهي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
*قال البخاري في صحيحه:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، قال:حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ وَقَالَ : إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ القِيَامَةِ ، حَتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ، ثُمَّ بِمُوسَى ، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ ، قال:حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ : فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الخَلْقِ ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ البَابِ ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا ، يَحْمَدُهُ أَهْلُ الجَمْعِ كُلُّهُمْ "صحيح البخاري/كتاب الزكاة/ باب من سأل الناس تكثرا/حديث رقم 1416.
قَوْله: وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ : يحْتَمل التَّعْلِيق حَيْثُ لم يضفه إِلَى نَفسه وَلم يقل: زادني.جامع السنة وشروحها-
فَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَاد"فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ"المؤمنون: 102: 103. وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا"الإسراء: 13: 14.
وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا.
وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطِفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ ونجا من السقوط في النار؛ استحق دخول الْجَنَّةَ. فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصَّ لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ.
وهذه هي الشفاعة لأهل الجنة لدخول الجنة: