تفسير سورة آل عمران
من آية 93 إلى آية 108
"كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"93.
هذه الآية رد على اليهود ، قبحهم الله ، وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع ودليل ذلك في كتابهم الذي بين أيديهم.
فإن الله ، عز وجل ، قد نص في كتابهم التوراة أن نوحًا ، عليه السلام ، لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحمان الإبل وألبانها ، فاتبعه بنوه في ذلك ، وجاءت التوراة بتحريم ذلك.
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ:لَمَّا أخبر اللهُ تعالى أنَّه لا يَنال المرءُ البرَّ إلا بالإنفاق ممَّا يحبُّ في قوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ- فالمشروعُ في الإسلام هو الإنفاقُ في طاعةِ الله مما يُحِبُّه العبدُ ويَشتهيه؛ كما قال سبحانه: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ "البقرة: 177 ، وقال" وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ "الإنسان: 8 –
ذكَر سبحانه عقِبَ قوله تعالى في الآية السابقة : لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ: عقَّب بأنَّ يعقوبَ عليه السَّلام، قد حرَّم أحبَّ الأشياءِ إليه وترَكها لله تعالى- وكان هذا سائغًا في شَريعتهم- فكلّ أنواعِ الأطعمة كان أَكْلُها حلالًا لذُريَّة يعقوب عليه السَّلام، قبل نزولِ التَّوراة على موسى عليه السَّلام، عدا نوعًا واحدًا حرَّمه أبوهم يعقوبُ على نَفْسِه، من غير أن يُحرِّمه اللهُ عزَّ وجلَّ عليه، وهو لحومُ الإبل وألبانُها، واتَّبعه اليهودُ على ذلك واقتدوا به ، فلمَّا نزلت التَّوراة بعدُ، حرَّم الله تعالى عليهم فيها ما شاء، وأحلَّ لهم فيها ما شاء وَفقِ حِكمته، فكان هذا نَسْخًا لِمَا سبَق مِن حِلِّه جميعَ الأطعمة لهم. وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز فاعترضوا على الله ، وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، لأنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل والتحريم.
"حضَرتْ عِصابةٌ من اليهودِ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: يا أبا القاسمِ، حدِّثْنا عن خِلالٍ نسألُكَ عنها، لا يعلَمُهنَّ إلَّا نبيٌّ، فكان فيما سألوه: أيُّ الطعامِ حرَّم إسرائيلُ على نفسِه قبلَ أنْ تُنزَّلَ التوراةُ؟ قال: فأنشُدُكم باللهِ الذي أنزَلَ التوراةَ على موسى، هل تعلَمونَ أنَّ إسرائيلَ يعقوبَ عليه السَّلامُ مرِضَ مرضًا شديدًا، فطال سَقَمُه، فنذَر للهِ نذرًا لئِنْ شَفاه اللهُ من سَقَمِه، ليُحرِّمَنَّ أحَبَّ الشرابِ إليه، وأحَبَّ الطعامِ إليه، فكان أحَبُّ الطعامِ إليه لُحْمانُ الإبِلِ، وأحَبُّ الشرابِ إليه ألبانُها؟، فقالوا: اللَّهُمَّ نعَمْ.الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : شعيب الأرناؤوط - المصدر : تخريج المسند لشعيب -الصفحة أو الرقم : 2471 - خلاصة حكم المحدث : حسن..
"أقبلَتْ يَهودُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالوا : يا أبا القاسمِ أخبِرنا عنِ الرَّعدِ ما هوَ قالَ ملَكٌ منَ الملائكةِ موَكَّلٌ بالسَّحابِ معَهُ مَخاريقُ مِن نارٍ يسوقُ بِها السَّحابَ حَيثُ شاءَ اللَّهُ فقالوا فما هذا الصَّوتُ الَّذي نسمعُ قالَ زَجْرُهُ بالسَّحابِ إذا زَجرَهُ حتَّى ينتَهيَ إلى حَيثُ أُمِرَ قالوا صدَقتَ. فقالوا فأخبِرنا عمَّا حرَّمَ إسرائيلُ علَى نفسِهِ قالَ اشتكَى عِرقَ النَّسا فلم يجِدْ شيئًا يلائمُهُ إلَّا لُحومَ الإبلِ وألبانَها فلذلِكَ حرَّمَها قالوا : صدَقتَ.
الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي-الصفحة أو الرقم : 3117 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ: أي: قُلْ لهم- يا محمَّدُ- محاجًا إياهم : احضروا كتابكم الذي فيه شَريعتكم الذي هو التوراة إنْ كنتم مُحِقِّين في دعواكم فاقرؤوها علينا بأنفسكم؛ ففيه إقامةُ الحُجَّة على الخَصْم بما يَعتقِد صحَّته ويؤمن به، فهذا أعظمُ مَحاجَّة ،لتجدوا النسخ المثبت في كتابكم من قبل .
لما أنكر اليهود -قبحهم الله- النسخ وقالوا: إنه غير ممكن؛ وهذا من جهلهم وضلالهم وإنكارهم لآيات الله، فالله تعالى ينسخ لحكمة، وهو يعلم بأحوال عباده.فالشرائع من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم تختلف، فقد كان في شريعة آدم أن الأخ يتزوج أخته، لكن من البطن الآخر، فكانت حواء تأتي بذكر وأنثى في كل حمل، فهذان الذكر والأنثى اللذان يكونان في بطن واحد أخوان يحرم عليهما أن يتزوج أحدهما الآخر، لكن يجوز له أن يتزوج من بطن آخر؛ حتى يكثر الناس، ثم نسخ ذلك وحرم الله الزواج بالأخت، وفي شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يجوز الجمع بين الأختين، وقد نُسِخَ ذلك وحُرِّمَ ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وفي شريعة التوراة: يجب على القاتل القصاص، وفي شريعة الإنجيل تجب الدية ، وفي شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - التي هي أكمل الشرائع وختامها والناسخة لكل ما يخالفها في الشرائع السابقة : يخير فيها أولياء القتيل بين القصاص وبين العفو إلى الدية وبين العفو مجانًا، فالله تعالى يشرع لعباده ما يناسب حالهم ثم ينسخ ذلك؛ لما يعلمه من المصلحة لهم.
"فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" 94.
افترى: من الافتراء وهو اختلاق الكذب، وأصله من فرى الأديم إذا قطعه لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود.
قوله: الكَذِبَ، فيه تأكيدٌ للافتراء؛ لأنَّ اسمَ الافتراءِ بمعنى الكَذِب والاختِلاق؛ فكان في إردافِه بقوله: الكَذِبَ تأكيدٌ للافتراء.
ذَلِكَ : تعود على تلاوة التوراة وقيل تعود حكم التوراة.
الظَّالِمُونَ :الجائرون المتجاوزون للحد بالكفر أو الفسق أو نحوهما.
أي : فمن تعمد الكذب على الله- تعالى- بأن زعم بأن ما حرمته التوراة على بني إسرائيل من المطاعم بسبب ظلمهم وبغيهم، كان محرمًا عليهم وعلى غيرهم قبل نزولها، فأولئك الذين قالوا هذا القول الكاذب هم المتناهون في الظلم:أي المتجاوزون للحدود التي شرعها الله- تعالى، وسيعاقبهم- سبحانه- على هذا الظلم والافتراء عذابًا أليمًا لا مهرب لهم منه ولا نصير.
"قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"95.
أي: قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين جادلوك بالباطل ولكل من كان على شاكلتهم في الكذب والظلم، قل لهم جميعا: صدق الله فيما أخبرنا به في قوله- تعالى- كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ وفي كل ما أخبرنا به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وأنتم الكاذبون في دعواكم.
وإذ كنتم تريدون الوصول إلى الطريق القويم حقا فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَأي فاتبعوا ملة أبيكم إبراهيم عليه السلام بالتوحيد وترك الشرك .
حَنِيفًا: الميل عن الشِّرك، أي كان متجها إلى الحق لا ينحرف عنه إلى غيره من الأديان أو الأقوال أو الأفعال الباطلة.
ثم نفى الله- تعالى- عن إبراهيم كل لون من ألوان الشرك بأبلغ وجه فقال: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.كان مخلصًا عبادته الله وحده.
وفي ذلك تعريض بشرك اليهود وغيرهم من أهل الكفر والضلال، وتنبيه إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه هم المتبِعون حقًا لإبراهيم، فقد أمر الله- محمدًا صلّى الله عليه وسلّم أن يسير على طريقة أبيه إبراهيم فقال: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ .النحل: 123.
وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد حكت قضية من القضايا الكثيرة التي جادل اليهود فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد لقنت الآيات النبي صلّى الله عليه وسلّم الجواب الذي يخرس ألسنتهم، ويكشف عن كذبهم وافترائهم وظلمهم، ويرشدهم ويرشد كل من يتأتى له الخطاب إلى الملة القويمة إن كانوا حقًا يريدون الاهتداء إلى الصراط المستقيم.
ثم أخبر القرآن عن مسألة أخرى جادل اليهود فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي مسألة أفضلية المسجد الحرام على غيره من المساجد، وقد رد القرآن عليهم وعلى أمثالهم في الكفر والعناد بما يثبت أن المسجد الحرام الذي نازعوا في أفضليته هو أفضل المساجد على الإطلاق فقال تعالى:
"إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ"96.
إن البيت الحرام الذي بمكة هو أول بيت وضعه الله- تعالى- للناس في الأرض ليكون متعبدًا لهم.
عَنْ أبِي ذَرٍّ، قالَ: قُلتُ يا رَسولَ اللهِ، : أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ أوَّلُ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: المَسْجِدُ الأقْصَى قُلتُ: كَمْ بيْنَهُمَا؟ قالَ: أرْبَعُونَ سَنَةً، وأَيْنَما أدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَهو مَسْجِدٌ. صحيح مسلم.
وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد منه فقال: معلوم أن سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى، والذي بنى المسجد الحرام هو إبراهيم وابنه إسماعيل، وبينهما وبين سليمان أكثر من ألف سنة فكيف قال صلّى الله عليه وسلّم: إن بين بناء المسجدين أربعين سنة!
والجواب أن الوضع غير البناء، فالذي أسس المسجد الأقصى ووضعه في الأرض بأمر الله سيدنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وبين إبراهيم ويعقوب هذه المدة التي جاءت في الحديث، أما سليمان فلم يكن مؤسسًا للمسجد الأقصى أو واضعًا له وإنما كان مجددًا فلا إشكال ولا منافاة.
وإذًا فالبيت الحرام أسبق بناء من المسجد الأقصى، وأجمع منه للديانات السماوية، وهو- أي البيت الحرام- أول بيت جعل الله الحج إليه عبادة مفروضة على كل قادر على الحج، وجعل الطواف حوله عبادة، وتقبيل الحجر الأسود الذي هو ضمن بنائه عبادة. ولا يوجد بيت سواه في الأرض له من المزاياوالخصائص ما لهذا البيت الحرام.
وبذلك ثبت كذب اليهود في دعواهم أن المسجد الأقصى أفضل من المسجد الحرام، وأن في تحول الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الكعبة في صلاته مخالفة للأنبياء قبله.
ثم مدح الله- تعالى- بيته بكونه مُبارَكًا أي كثير الخير دائمه، من البركة وهي كثرة الخير مع النماء والزيادة والدوام.
أي أن هذا البيت كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره أو اعتكف فيه، أو طاف حوله، بسبب مضاعفة الأجر، وإجابة الدعاء، وتكفير الخطايا لمن قصده بإيمان وإخلاص وطاعة الله رب العالمين.
وإن هذا البيت في الوقت ذاته وفير البركات المادية والمعنوية.
فمن بركاته المادية: قدوم الناس إليه من مشارق الأرض ومغاربها ومعهم خيرات الأرض، يقدمونها على سبيل تبادل المنفعة تارة وعلى سبيل الصدقة تارة أخرى لمن يسكنون حول هذا البيت الحرام، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم حيث قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" إبراهيم: 37.
ومن بركاته المعنوية: أنه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهي فريضة الحج، وإليه يتجه المسلمون في صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم، وأفئدة المؤمنين تهوي إليه وتشتاق.
ثم مدحه بأنه هُدىً لِلْعالَمِينَ: أي بذاته مصدر هداية للعالمين، لأنه قبلتهم ومتعبدهم، وفي استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير وإلى ما يوصلهم إلى رضا الله وجنته.
"فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" 97.
ثم مدحه- ثالثًا- بقوله: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ: أي فيه علامات ظاهرات، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته، وعلو مكانته.وهذه الجملة الكريمة مستأنفة لبيان وتفسير بركته وهداه.
ثم بيَّن- سبحانه- بعض هذه الآيات البينات الدالة على عِظَمِهِ وشرفِهِ فقال: مَقامُ إِبْراهِيمَ :
محتمل أن المراد به المقام المعروف وهو الحَجَر الذي كان يقوم عليه الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع البنيان، وكان ملصقًا في جدار الكعبة، فلما كان عمر رضي الله عنه وضعه في مكانه الموجود فيه الآن، والآية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم، قد أثرت في الصخرة وبقي ذلك الأثر إلى أوائل هذه الأمة، وهذا من خوارق العادات، وقيل إن الآية فيه ما أودعه الله في القلوب من تعظيمه وتكريمه وتشريفه واحترامه، ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد مضاف يراد به مقاماته في مواضع المناسك كلها، فيكون على هذا جميع أجزاء الحج ومفرداته آيات بينات، كالطواف والسعي ومواضعها، والوقوف بعرفة ومزدلفة، والرمي، وسائر الشعائر، والآية في ذلك ما جعله الله في القلوب من تعظيمها واحترامها وبذل نفائس النفوس والأموال في الوصول إليها وتحمل كل مشقة لأجلها، وما في ضمنها من الأسرار البديعة والمعاني الرفيعة، وما في أفعالها من الحكم والمصالح التي يعجز الخلق عن إحصاء بعضها. تفسير السعدي.
وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا : هذه هي الآية الثانية التي تدل على فضل هذا البيت وشرفه .أي من التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل قال- تعالى" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ" العنكبوت: 67.وفي ذلك إجابة لسيدنا إبراهيم حيث قال- كما حكى القرآن عنه" رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ" إبراهيم: 35.ولا شك أن في أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله لأنه موضع أمان الناس في بيئة تغري بالاعتداء لخلوها من الزرع والنبات. حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها.
قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: لا هِجْرَةَ، ولَكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ، وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، فإنَّ هذا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَومَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ، وهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، وإنَّه لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فيه لأحَدٍ قَبْلِي، ولَمْ يَحِلَّ لي إلَّا سَاعَةً مِن نَهَارٍ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلَّا مَن عَرَّفَهَا، ولَا يُخْتَلَى خَلَاهَا. قالَ العَبَّاسُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إلَّا الإذْخِرَ؛ فإنَّه لِقَيْنِهِمْ ولِبُيُوتِهِمْ، قالَ: قالَ: إلَّا الإذْخِرَ.الراوي : عبد الله بن عباس- المصدر :صحيح البخاري
وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء أن من جنى جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه أنه يأمن ولا يقام عليه الحد حتى يخرج منه.
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا: أي: إنَّ شعيرةَ حَجِّ بيتِ الله تعالى الحرام فرْضٌ واجبٌ لله عزَّ وجلَّ على مَن قَدَر مِن أهلِ التَّكليفِ على القصدِ إليه، وذلك بتَوفُّر القُدرةِ الماليَّة والبدنيَّة وغيرِهما ممَّا يُحقِّق الاستطاعةَ
شروط وجوب الحج خمسة وهي: الإسلام ـ البلوغ ـ العقل ـ الحرية ـ الاستطاعة .والاستطاعة تنقسم إلى أربعة أنواع: ـ الاستطاعة المادية: فلابد من توافر المال الذي يحتاجه الحاج في سفره وتكاليف حجه حتى عودته، وتوافر المال الذي يتركه لذويه حتى يعود ، وذلك بعد سداد كل الديون أواستئذان الدائن.وأما عن الدَّيْن الذي لم يَحِن أجلُه كأقساط البيع أو تسديد أقساط ؛ فلا بأس من الذهاب للحج دون استئذان. ويشترط في هذا المال أن يكون حلالًا . فلا يجوز الحج من المال الحرام ، مثل مال الربا أو الرشوة أو البيع المحرم. ـ الاستطاعة البدنية: الحج يحتاج إلى بذل جهد ومشقة من تحمل تبِعات السفر ومناسك الحج ،والبعض يؤجل حجه إلى أن يكبر سنه ، وكأنه لا يليق به أن يكون حاجًا إلا أن يكون شيخًا كبيرًا وهذا مخالف للصواب حيث ينبغي المبادرة بالحج ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلاً
وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ: أي: إنَّ مَن جحَد فرض الحجِّ فأنكر وجوبه وكفر به، فإنَّ الله غنيٌّ عنه، وعن حَجِّه، وعن سائرِ خَلْقه يُنظر: تفسير ابن جرير/5/618، 624)، شرح عمدة الفقه- كتاب الطهارة والحج لابن تيمية 2/76، تفسير السعدي ،ص: 971، تفسير ابن عثمين- سورة آل عمران. 1/554-555. وممن قال بهذا القولِ مِن السَّلف ابنُ عبَّاس، والضَّحَّاك، وعطاء، وعمران القطان، والحسن، ومجاهدٌ، وعِكرمةُ، ومُقاتل. يُنظر"تفسير ابن جرير"5/ 618-، وزاد المسير. لابن الجوزي ظ1/ 309.وفي الآيةِ أوجهٌ أُخرى ذكَرها ابنُ الجوزيِّ في - زاد المسير- الموضع السابق، والشنقيطيُّ في أضواء البيان.1/203.. .
عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا."الراوي : أبو ذر الغفاري - صحيح مسلم.
" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ" 98.
آيَاتِ اللَّهِ: هي الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لأصحابِ التَّوراة والإنجيل مُوبِّخًا لهم: يا معشرَ اليهود والنَّصارى، ما الذي يَحمِلكم على جحْد حُجَج الله تعالى التي جاءت بها كُتُبكم، التي تُثْبِت نبوَّتي وصِدْقَ ما جئتُ به من الله تعالى؛ فلِمَ تَجْحَدون ذلك وأنتُم على عِلْم بالحقِّ، والله تعالى شهيدٌ على كُفْركم؟! فإنَّه سبحانه لا يَخفى عليه شيءٌ، وسيُجازيكم على كُفْركم بما تَستحِقُّون.
ولكي يكون التأنيب أوجع، أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يناديهم بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ، لأن علمهم بالكتاب يستلزم منهم الإيمان، والإذعان للحق، ولكنهم اتخذوا علمهم وسيلة للشرور والتضليل فكان مسلكهم هذا دليلا على فساد فطرتهم، وخبث طويتهم، وسوء طباعهم.
"قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" 99 .
وبعد أن أنَّبَهُم ووبخهم القرآن الكريم في الآية السابقة على كفرهم وضلالهم، أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم في آية ثانية أن يوبخهم على محاولتهم إضلال غيرهم. فالآية الأولى لكفهم عن الضلال، والثانية لكفهم عن الإضلال.
وقوله: تَصُدُّونَمن الصد وهو صرف الغير عن الشيء ومنعه منه.
وقوله: سَبِيلِ اللَّهِأي طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام.
لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًاوَأَنتُمْ شُهَدَاءُ :تبغون لأهل دين الله ولمن هو على سبيل الحق عوجًا وضلالا، وزيغًا عن الاستقامة على الهدى والمحجة، وأنتم تعلمون بتقدم البشارة به، عالمون بصدق نبوته، ومن كان كذلك فلا يليق به الإصرار على الباطل والضلال والإضلال.
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ : اعتراضٌ تذييليٌّ، فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديد، وتذكيرٌ لأنَّهم يعلمون أنَّ الله يعلم ما تُخفي الصُّدور .وإنما ختم هذه الآية بنفي الغفلة، لأن صدهم عن الإسلام كان بضرب من المكر والكيد ووجوه الحيل، وختم الآية السابقة بقوله والله شهيد لأن العمل الذي فيها وهو الكفر ظاهر مشهود.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ " 100.
بعد أن بين- سبحانه- في هاتين الآيتين أن اليهود قد جمعوا الخسيستين ضلال أنفسهم، ثم محاولتهم تضليل غيرهم، تركهم مؤقتا في طغيانهم يعمهون، ووجه نداء إلى المؤمنين يحذرهم فيه من دسائس اليهود وكيدهم، وينهاهم عن الركون إليهم، والاستماع إلى مكرهم .
وقد خاطب الله المؤمنين بذاته في هذه الآية بعد أن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يخاطب أهل الكتاب في الآيتين السابقتين، إظهارًا لجلالة قدرهم، وإشعارًا بأنهم الأحقاء بالمخاطبة من الله- تعالى-.
وناداهم بصفة الإيمان لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإيمان من فطنة ويقظة .
فَرِيقًا:ووصف- سبحانه- الذين يحاولون الوقيعة بين المؤمنين بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب، إنصافًا لمن لم يفعل ذلك منهم.
ونعتهم بأنهم أُوتُوا الْكِتابَ للإشعار بأن تضليلهم متعمد وبأن تآمرهم على المؤمنين مقصود، فهم أهل كتاب وعلم، ولكنهم استعملوا علمهم في الشرور والآثام.
يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ: أي: يصيروكم بعد إيمانكم كافرين.
"وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" 101.
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ: ثم بين القرآن بعد ذلك أنه ما يسوغ للمؤمنين أن يطيعوا هذا الفريق من الذين أوتوا الكتاب، أو أن يكفروا بعد إيمانهم، أو أن يتفرقوا بعد وحدتهم. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ: للإنكار، ولاستبعاد كفرهم في حال اجتمع لهم فيها كل الأسباب الداعية إلى الإيمان.
وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ:أي: الرسول بين أظهركم يتلو عليكم آيات ربكم كل وقت، وهي الآيات البينات التي توجب القطع بموجبها والجزم بمقتضاها وعدم الشك فيما دلت عليه بوجه من الوجوه.
ثم أرشد الله- تعالى- المؤمنين إلى الوسيلة التي متى تمسكوا بها عصموا أنفسهم من مكر اليهود فقال- تعالى "وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ: أي ومن يلتجئ إلى الله في كل أحواله ويتوكل عليه حق التوكل، ويتمسك بدينه، فقد هُدِيَ إلى الطريق الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
وفي هذا إشارة إلى أن التمسك بدين الله وبكتابه كفيل بأن يبعد المسلمين الذين لم يشاهدوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم عما يبيته لهم أعداؤهم من مكر وخداع.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" 102.
ثم أمر الله- تعالى- المؤمنين بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات، وتقوى الله حق تقواه كما قال ابن مسعود: وهو أن يُطاع فلا يُعصَى، ويُذكر فلا يُنسَى، ويشكر فلا يُكفر، وهذه الآية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى، وأما ما يجب على العبد منها، فكما قال تعالى " "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ " التغابن :16.
وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ : أي لا تموتن على حالة من الأحوال إلا على هذه الحالة الحسنة التي هي حالة المداومة على التمسك بالإسلام وتعاليمه وآدابه.فمن عاش على شيء مات عليه، مع التنبيه على مقولة "مَن عاش على شيء مات عليه" ليس حديثًا، ولكنه كلام بعض أهل العلم، وهو مبني على الأغلب.
"مَنْ ماتَ على شيءٍ بَعثَهُ اللهُ عليْهِ" الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع-الصفحة أو الرقم: 6543 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
يومُ القِيامةِ يومُ الجَزاءِ على الأعمالِ في هذه الدُّنيا، والجزاءُ يكونُ من جِنسِ العَملِ؛ فيَبعثُ اللهُ كلَّ إنسانٍ على ما ماتَ عليه مِن اعتقادٍ وعملٍ فيُجازِيه عليه، كما يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذا الحَديثِ: "مَن ماتَ على شَيءٍ"، أي: مَن ماتَ على عَمَلٍ مِن الأعْمالِ طاعَةً كانتْ أو مَعصيَةً، "بَعَثَه اللهُ عليه"، أي: بَعَثَه اللهُ عزَّ وجلَّ على هذا العَمَلِ؛ فيَموتُ الإنسانُ على ما عاشَ عليه.
"وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" 103.
وبعد أن أمرهم- سبحانه- بمداومة خشيته، والاستمرار على دينه أتبع ذلك ببيان ما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله.
والاعتصام: افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أى يمنع من السقوط والوقوع. والمراد بحبل الله هنا: دينه أو عهده، أو كتابه، لأن التمسك بهذه الأشياء يوصل إلى النجاة .
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا:كنتم في الجاهلية يضرب بعضكم رقاب بعض ، ولما جاء الإسلام أنعم عليكم وألف بين قلوبكم ، فهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض.
والمعنى: كونوا جميعًا مستمسكين بكتاب الله وبدينه وبعهوده، ولا تتفرقوا كما كان شأنكم في الجاهلية يضرب بعضكم رقاب بعض، بل عليكم أن تجتمعوا على طاعة الله وأن تكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا. وبذلك تفوزون وتسعدون وتنتصرون على أعدائكم.
وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا : أي: قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها "فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا " بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ: أي: يوضح لكم آياته المجلية للحق ويفسرها، فيبين لكم الحق من الباطل، والهدى من الضلال لعلكم تهتدون بمعرفة الحق والعمل به.
"وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"104.
بعد أن أمرهم- سبحانه- بتكميل أنفسهم عن طريق خشيته وتقواه والاعتصام بدينه وبكتابه، عَقَّبَ ذلك بأمرِهِم بالعمل على تكميل غيرهم وإصلاح شأنه عن طريق دعوته إلى الخير وإبعاده عن الشر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الأمة: الجماعة التي تؤم وتقصد لأمر ما ،وتطلق علىأتباع الأنبياء كما تقول: نحن من أمة محمد- صلّى الله عليه وسلّم، وعلى الرَّجُلِ الجامعِ للخيرِ الذي يُقْتَدَى به كقوله- تعالى" إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا "النحل: 120.وعلى الدين والملة كقوله- تعالى" إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ " الزخرف: 22، وعلى الحين والزمان كقوله- تعالى" وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ" يوسف: 45.
والمراد بالأمة هنا الطائفة من الناس التي تصلح لمباشرة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والمراد بالخير: هو اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه.
والمراد بالمعروف : ما حسنه الشرع وتعارف العقلاء على حسنه والمنكر ضد ذلك.
والمعنى: ولتكن منكم أيها المؤمنون طائفة قوية الإيمان عظيمة الإخلاص، تبذل أقصى طاقتها وجهدها في الدعوة إلى الخير الذي يصلح من شأن الناس، وفي أمرهم بالتمسك بالتعاليم وبالأخلاق التي توافق الكتاب والسنة والعقول السليمة، وفي نهيهم عن المنكر الذي يأباه شرع الله، وتنفر منه الطباع الحسنة. وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه ، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان "
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب. اللهم اجعلنا من الفائزين المعافين.
" وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" 105.
بعد أن أمر الله- تعالى- بالمواظبة على الدعوة إلى الخير، عقب ذلك بنهيهم عن التفرق والاختلاف .
أى: ولا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك اليهود والنصارى وغيرهم من الذين تفرقوا شيعًا وأحزابًا، وصار كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ واختلفوا فيما بينهم اختلافا شنيعًا، وقد ترتب على ذلك أن كفَّر بعضهم بعضًا، وقاتل بعضهم بعضًا، وزعم كل فريق منهم أنه على الحق وغيره على الباطل، وأنه هو وحده الذي يستطيع أن يدرك ما في الكتب السماوية من حقائق، وهو وحده الذي يستطيع تفسيرها تفسيرًا سليمًا. ولقد كان تفرقهم هذا واختلافهم من بعد ما جاءهم البينات. أي الآيات والحجج والبراهين الدالة على الحق، والداعية إلى الاتحاد والوئام لا إلى التفرق والاختلاف. والمقصود بهذا النهي إنما هو التفرق والاختلاف في أصول الدين وأسسه، أما الفروع التي لا يصادم الخلاف فيها نصًا صحيحًا من نصوص الدين فلا تندرج تحت هذا النهي، فنحن نرى أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم والتابعين من بعدهم قد اختلفوا فيما بينهم في بعض المسائل التي لا تخالف نصًا صحيحًا من نصوص الشريعة وتأولها كل واحد أو كل فريق منهم على حسب فهمه الذي أداه إليه اجتهاده.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان سوء عاقبة المتفرقين، والمختلفين في الحق فقال وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ : أي لهؤلاء الموصوفون بتلك الصفات الذميمة ، عذابٌ من عند الله عظيمٌ؛ بسبب تفرقهم واختلافهم الباطل ،فلا تكونوا مِثْلهم فيكونَ لكم من عِقابِ الله مِثْلُ الذي لهم.
"يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ"106.
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى العذابَ العظيمَ الذي سيَقَع على مَن تفرَّقوا في دِينهم شيعًا بعد مجيءِ الحقِّ وظهورِه لهم، بيَّن هنا موعدَ مجيء ذلك العذاب ؛ وهو يوم القيامة .ويتضمن ذلك الترغيب والترهيب الموجب للخوف والرجاء.
أي: إنَّ أولئك لهم عذابٌ عظيمٌ في اليومِ الذي تكونُ فيه وجوهُ أهل السعادةِ بيضاءَ تتلألأ بهجة وسرورًا حين تظهر لهم آثار أعمالهم ، وهم الذين اعتَصَموا بحبلِ الله جميعًا، وائتلَفوا بينهم، وأما وجوهُ أهلِ الشَّقاوة فتسودّ بالذل والكآبة حين يجنون ثمار أعمالهم، وعواقب تفرقهم واختلافهم، بعدَ ظهورِ البيِّنات لهم.
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ:أي: إنَّ الَّذين اسودَّت وجوهُهم، يُقال لهم توبيخًا وتقريعًا: أكفرتُم بعد توحيدِ الله تعالى وعهْدِه الذي أخَذه عليكم بألَّا تُشرِكوا به شيئًا.
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ: أي: فذوقوا إذَنْ عذابَ الله تعالى؛ بسببِ كُفْركم هذا. وهذا الوعيد في الآية يقابل الوعد في الآية قبلها وهو قوله "وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" فالفلاح فيها يشمل الفوز بخيري الدنيا والآخرة.
ثم بين- سبحانه- حال الذين ابيضت وجوههم وحسن عاقبتهم فقال"وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"107.
أي: أمَّا أولئك الذين قد ابيضَّتْ وجوهُهم ببركة إيمانهم وعملهم الصالح فهُمْ يتقلَّبون في رحمةِ الله تعالى بما أعدَّ لهم في جنَّته من أنواعِ النعيم، ماكثين فيه أبدًا بغير نهاية.
وبعد أن أفاض- سبحانه- في الحديث عن أحوال السعداء وأحوال الأشقياء وعن رذائل الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم ممن أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وبعد أن ساق- سبحانه- من التوجيهات الحكيمة، والإرشادات النافعة ما يشفى الصدور ويهدى النفوس، بعد كل ذلك، خاطب- سبحانه- نبيه صلّى الله عليه وسلّم بقوله:
"تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ "108.
وقال- سبحانه- تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها فأظهر لفظ الجلالة ولم يقل تلك آياتنا نتلوها، فالتصريح باسمه- تعالى- يزيد البيان جلالا ويبعث في النفوس الخشية والمراقبة والبعد عما يوجب العقاب والإقبال على ما يوصل إلى الثواب.
ِالْحَقِّ: أي نتلوها عليك متلبسة بالحق أو متلبسين بالصدق أو العدل في كل ما دلت عليه هذه الآيات ونطقت به، مما لا تختلف فيه العقول السليمة، والمدارك القويمة.
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ : نفي للظلم بأبلغ وجه فإنه- سبحانه- لم ينف فقط الظلم عن ذاته بل نفى عن ذاته إرادة الظلم إذ هو منزه عنه - سبحانه. هو الحكم العدل الذي لا يجور ، لأنه القادر على كل شيء ، العالم بكل شيء . "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ...." النساء : 40.