ملتقى قطرات العلم النسائي
 
 

الـــمـــصـــحـــــف الـــجـــامـــع
مـــصـــحـــــف آيـــــات
موقع الدرر السنية للبحث عن تحقيق حديث

العودة   ملتقى قطرات العلم النسائي > ::الملتقى العام:: > ملتقى القرآن وعلومه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 03-15-2024, 02:49 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,050
1 تفسير سورة آل عمران


التعديل الأخير تم بواسطة أم أبي التراب ; 07-22-2024 الساعة 01:32 AM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 03-15-2024, 02:50 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,050
Haedphone

تفسير سورة آل عمران
مما ورد في فضلها:


عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ"اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما، اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ. قالَ مُعاوِيَةُ: بَلَغَنِي أنَّ البَطَلَةَ: السَّحَرَةُ"صحيح مسلم.
الزَّهْراوَيْنِ: المنيرتان/ غَمامَتانِ :سحابتان / غَيايَتانِ: كل ما أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغيرها. / فِرْقانِ:طائفتان / صَوافَّ: جمع صافة، وهي الجماعة الواقفة على الصف, أو الباسطات أجنحتها متصلا بعضها ببعض./ تُحاجَّانِ: من المحاجة: وهي المخاصمة والمجادلة وإظهار الحُجَّة، والمعنى: تجادلان عنه عند السؤال, أو تدافعان عنه الجحيم والزبانية./ البَطَلَةُ: السحرة. اقرؤوا القرآن وداوموا على تلاوته؛ فإنه يشفع يوم القيامة لأصحابه التالين له العاملين به، واقرؤوا على الخصوص سورة البقرة وسورة آل عمران فإنهما يسميان الزهراوان أي المنيرتان؛ لنورهما وهدايتهما وعظم أجرهما، فكأنهما بالنسبة إلى ماعداهما عند الله مكان القمرين من سائر الكواكب، وإن ثواب قراءتهما يأتيان يوم القيامة على صورة سحابتين تظلان صاحبهما من حر يوم القيامة، أو يأتي ثواب قراءتهما على صورة جماعتين من طير واقفات في صفوف باسطات أجنحتها متصلا بعضها ببعض، تدافعان عن أصحابهما وتدفعان عنهم الجحيم. ثم أكد النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة سورة البقرة؛ فإن المواظبة على تلاوتها والتدبر في معانيها والعمل بما فيها بركة ومنفعة عظيمة، وترك هذه السورة وعدم قراءتها وتدبرها والعمل بما فيها حسرة وندامة يوم القيامة، وإن من عظيم فضل هذه السورة أن السحرة لا تقدر أن تضر من يقرأها ويتدبرها ويعمل بها، وقيل: لا يقدر السحرة على قراءتها وتدبرها والعمل بها ولا يوفقون لذلك.موسوعة الأحاديث.
تعظيمُ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم لقارِئ البقرةِ وآلِ عِمْرانَ:

فعن أنس رضِي اللهُ عنه، قال"كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا- يعني: عظُمَ- وفي رواية: يُعَدُّ فينا عَظيمًا، وفي أخرى: عُدَّ فينا ذا شأنٍ" صحَّحه الألباني في :صحيح الموارد- 1268.
سورةُ آل عِمْرانَ سورةٌ مدنيَّةٌ، نزلَتْ بعد الهجرةِ، ونقَل الإجماعَ على ذلك عددٌ من المفسِّرين. نقَل الإجماعَ على ذلك: القرطبيُّ, وابنُ تيمية, وابنُ كثير، ومجدُ الدِّين الفيروزابادي, وابنُ عاشور. ينظر: ((البداية والنهاية)) (3/104), ((تفسير القرطبي)) (4/1), ((منهاج السنة النبوية)) (6/422)، ((البداية والنهاية)) (3/104), ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) (1/158)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/146). وقد نزَل صدْرُ سورة آل عِمْرانَ إلى ثلاثٍ وثمانينَ آيةً في وَفْدِ نَجْرانَ؛ ولهذا كان عامَّة السُّورة في شأن المسيح عليه السلام، وكان قُدومُهم سنةَ تِسعٍ من الهجرةِ. ينظر: ((تفسير القرطبي)) (4/4)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/377)، ((تفسير ابن كثير)) (2/5).موسوعة التفسير-الدرر السنية.
موضوعاتُ السُّورةِ:
تعريف بسورة آل عمران:
سبق في تفسير سورة البقرة وقلنا إن سورة البقرة بتتكلم عن إقامة الدين وبناءالمجتمع لكن سورة آل عمران بتتكلم عن الحفاظ على هذا الدين ، بتتكلم عن الحفاظعلى هذا المجتمع من الهدم ، جاءت سورة آل عمران لتوضح كيف نحافظ على هذا البنيان الذي بنيناه في سورة البقرة ؟ كيف نثبت على هذا الدين ؟ كيف نُواجه الشبهات ؟نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في مخاصمة النصارى وإبطال مذهبهم ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق دين الإسلام كما نزل صدر البقرة في محاجة اليهود كما تقدم.

سورة آل عمران هي السورة الثالثة في ترتيب المصحف إذ تسبقها في الترتيب سورتا الفاتحة والبقرة.وتبلغ آياتها مائتي آية.
وسميت بسورة آل عمران، لورود قصة آل عمران بها بصورة فيها شيء من التفصيل الذي لا يوجد في غيرها.والمراد بآل عمران عيسى، ويحيى ، ومريم وأمها عليهم السلام.والمراد بعمران والد مريم أم عيسى- عليه السّلام-.
وصدر هذه السورة نزل بسبب وفد نصارى نجران التي تقع جنوب مكة في اتجاه اليمن ، وكان هذا الوفد مؤلفًا من ستين رجلا، وكانوا قد وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يناظرونه في شأن عيسى ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرد عليهم بالبراهين الساطعة . وقد لبثوا في المدينة المنورة أيامًا، فلما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، امتنعوا، وكثر جدالهم في عيسى عليه السلام، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، أي الدعوة إلى أن يبتهل كل طرف إلى الله عز وجل أن يجعل لعنته على الطرف الكاذب، فخافوا وأبوا. تفسير الوسيط.وإسلام ويب.
نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في مخاصمة النصارى وإبطال مذهبهم ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق دين الإسلام كما نزل صدر البقرة في محاجة اليهود كما تقدم.تفسير السعدي.
"جاءَ العاقِبُ والسَّيِّدُ صاحِبا نَجْرانَ إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يُرِيدانِ أنْ يُلاعِناهُ، قالَ: فقالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: لا تَفْعَلْ؛ فَواللَّهِ لَئِنْ كانَ نَبِيًّا فَلاعَنَّا، لا نُفْلِحُ نَحْنُ ولا عَقِبُنا مِن بَعْدِنا، قالا: إنَّا نُعْطِيكَ ما سَأَلْتَنا، وابْعَثْ معنا رَجُلًا أمِينًا، ولا تَبْعَثْ معنا إلَّا أمِينًا، فقالَ: لَأَبْعَثَنَّ معكُمْ رَجُلًا أمِينًا حَقَّ أمِينٍ، فاسْتَشْرَفَ له أصْحابُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: قُمْ يا أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ، فَلَمَّا قامَ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا أمِينُ هذِه الأُمَّةِ.الراوي : حذيفة بن اليمان-صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم: 4380.
شرح الحديث:
بعدَ جِهادٍ طَويلٍ، وصَبرٍ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه؛ ظهَرَ دينُ اللهِ وعزَّ وقَوِيَ، فكانتِ القَبائلُ تُرسِلُ الوُفودَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ مُعلِنينَ إسْلامَهم، أو خُضوعَهم التَّامَّ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي حُذَيْفةُ بنُ اليَمانِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه جاء العاقِبُ، قيلَ: اسمُه عبدُ المَسيحِ، والسَّيِّدُ، واسمُه الأيْهَمُ، أو شُرَحْبيلُ، صاحِبَا نَجْرانَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهما مِن أكابِرِ نَصارى نَجْرانَ وحُكَّامِهم، وكان السَّيِّدُ رَئيسَهم وصاحِبَ رِحالِهم ومُجتَمَعِهم، والعاقبُ صاحبُ مَشورَتِهم، وكان معَهم أيضًا أبو الحارِثِ بنُ عَلْقَمةَ، وكان أُسْقُفَّهم، وحَبْرَهم، وصاحِبَ مِدْراسِهم، وكان مَقدَمُهم إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَنةَ تِسعٍ مِنَ الهِجْرةِ في وَفدٍ من أهلِ نَجْرانَ، ونَجْرانُ مَدينةٌ بيْنَ مكَّةَ واليمَنِ. وقدْ جاءا يُريدانِ مُلاعَنةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُلاعَنةُ هي المُباهَلةُ، وهي أنْ يَدْعوَ كلُّ واحدٍ مِن المُتَلاعِنَيْنِ على نفْسِه بالعَذابِ على الكاذِبِ والمُبطِلِ، فخافَ أحَدُهما وقال لصاحِبِه: لا تَفعَلْ؛ فواللهِ لَئنْ كان نَبيًّا، فلاعَنَنا لا نُفلِحُ نحْن ولا ذُرِّيَّتُنا مِن بَعدِنا، فامْتَنَعا عنِ المُلاعَنةِ، وتَصالَحا معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على مالٍ يَدفَعونَه له، فقالا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّا نُعْطيكَ ما سأَلْتَنا، وابعَثْ معَنا رَجلًا أمينًا، ولا تَبعَثْ معَنا إلَّا أمينًا، وهذا تَشْديدٌ وتَأكيدٌ على أمانَتِه، فأجابَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى طلَبِهم، وقال لهمْ "لَأَبعَثَنَّ معَكم رَجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ"، وهذا تَأكيدٌ على أمانةِ مَن سيَبعَثُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فرَغِبوا النَّاسُ في أنْ يَنالوا ذلك؛ لمَا فيه مِن تَزْكيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووَصْفِه للرَّجلِ المُخْتارِ بالأمانةِ، وليس حِرصًا على الوِلايةِ والمَسؤوليَّةِ، فبعَثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبا عُبَيْدةَ بنَ الجرَّاحِ رَضيَ اللهُ عنه، وقال"هذا أمينُ هذه الأُمَّةِ"، وإنَّما خَصَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالأمانةِ، وإنْ كانت مُشترَكةً بيْنَه وبيْنَ غيرِه منَ الصَّحابةِ؛ لغلَبَتِها فيه بالنِّسبةِ إليهم، وقيلَ: لكَوْنِها غالِبةً بالنِّسبةِ إلى سائرِ صِفاتِه..الدرر السنية.

التعديل الأخير تم بواسطة أم أبي التراب ; 05-01-2024 الساعة 03:07 AM
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 05-01-2024, 03:19 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,050
y


"الم" هذه الحروف المقطعة:قال الشعبي وجماعة :الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه وهي سر القرآن . تفسير البغوي. فلم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان لمعانيها وبناء على ذلك اختلفت أقوال العلماء في بيان معانيها.فهذه الحروف ليس لها معنى في نفسها، ولكنها تُشير إلى قضية الإعجاز كأنه يقول: إن هذا القرآن مركب من هذه الحروف التي تُرَكِّبُونَ منها الكلامَ فأتوا بمثله.
" اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ"2.
افتتحها تبارك وتعالى بالإخبار بألوهيته، وأنه الإله الذي لا إله إلا هو الذي لا ينبغي التأله والتعبد إلا لوجهه، فكل معبود سواه فهو باطل، والله هو الإله الحق المتصف بصفات الألوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية، الْحَيُّ : أي: إنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى هو الذي له الحياةُ الكاملة، التي لم يَسبِقها عَدَمٌ، ولا يَلحَقها زَوالٌ، المٌستلزِمةُ لجميعِ صِفاتِ الكمال، وهو أيضًا الْقَيُّومُ: القائمُ بنفْسِه؛ فلا يَحتاج لأحدٍ، القائمُ بأمورِ غيرِه من خَلْقه مِن الرَّزق وغيرِه؛ فكلُّ الموجوداتِ إليه مُفتَقِرةٌ، ولا قِوامَ لها بدونه، وهذه القَيُّوميَّة مُستلزِمةٌ لجميعِ أفعالِ الكَمال.الدرر: موسوعة التفسير وتفسير السعدي.
" نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ"3.
ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم أن نَزَّلَ على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب، الذي هو أَجَلّ الكتب وأعظمها المشتمل على الحق في إخباره وأوامره ونواهيه، فما أخبر به صدق، وما حكم به فهو العدل، وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابَهُ ، مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ: من الكتب السابقة، فهو المزكي لها، فما شهد له فهو المقبول، وما رده فهو المردود، وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون، وهي شاهدة له بالصدق، فأهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به، فإن كفرهم به ينقض إيمانهم بكتبهم، ثم قال تعالى وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ :أي: على موسى ، وَالْإِنجِيلَ: على عيسى.تفسير السعدي.
" مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ"4.
مِن قَبْلُ : أي: أنزل التَّوراةَ على موسى عليه السَّلام، والإنجيلَ على عيسى عليه السَّلام، مِن قَبلِ هذا القُرْآنِ الَّذي نزَّله عليك . وقال سبحانه: مِنْ قَبْلُ؛ لكي لا يتوهَّم أنَّ هُدَى التوراةِ والإنجيل مُستمرٌّ بعد نزول القرآن، وفيه إشارةٌ إلى أنَّها كالمقدِّماتِ لنزولِ القرآن، الذي هو تمامُ مرادِ الله مِن البَشر.
هُدًى لِّلنَّاسِ : الظاهر أن هذا راجع لكل ما تقدم، أي: أنزل الله القرآن والتوراة والإنجيل هدى للناس من الضلال، فمن قبل هدى الله فهو المهتدي، ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلاله.تفسير السعدي.
تعقيب:وخُصَّ الهدى بالتَّوراة والإنجيل في قوله: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنَّاسِ، وإنْ كان القُرْآن هدًى؛ لأنَّ المناظرةَ كانتْ مع النَّصارى، وهم لا يَهتدون بالقُرْآن، بل وُصِف في الآية التي قبلها " نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ " بأنَّه حقٌّ في نفْسه، قَبِلوه أو لم يَقْبَلوه، وأمَّا التَّوراةُ والإنجيلُ فهم يَعتقدون صحَّتهما؛ فلذلك اختصَّا في الذِّكر بالهُدَى .
وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ : أي: وأنزَلَ في كُتبِه ما يُفرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ ، والهُدى والضَّلال.
فيه: تَرتيبٌ بديعٌ في التَّقديم والتأخير، حيث لم يَجئِ الإخبارُ عن ذلك على حسَب الزَّمان؛ إذ التَّوراة أولًا، ثمَّ الزَّبور، ثمَّ الإنجيل، ثمَّ القُرْآن؛ فقدَّم القُرْآن الكِتَاب الذي هو القرآن؛ لشَرفِه، وعِظَم ثَوابِه، ونَسْخِه لِمَا تقدَّم من الكتُب، وبقائِه، واستمرار حُكمه إلى آخِر الزَّمان، وثنَّى بالتَّوراة؛ لِمَا فيها من الأحكامِ الكثيرة، والقَصص، وخفايا الاستنباط، ثمَّ ثلَّث بالإنجيل؛ لأنَّه كتابٌ فيه من المواعِظ والحِكم ما لا يُحصَى، ثمَّ تلاه بالزَّبور- عند القائِلِ بأنَّ الفرقان هو الزَّبور-؛ لأنَّ فيه مواعظَ وحِكمًا لم تبلغ مبلغَ الإنجيل.الدرر السنية :موسوعة التفسير.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ :أي إن الذين كفروا بآيات الله الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل، فكذَّبوا بالقرآن أولًا ثم بسائر الكتب تبعًا لذلك - لهم عذاب شديد بما يلقي الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تدنس نفوسَهُم - وتكون سببَ عقابِهم في الدار الآخرة.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ:أي إن الله قوي لا يعجزه شيء ، وينتقم ممن عصاه.
"إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ" 5.
تُرشد الآياتُ إلى كَمال عِلمِ الله تعالى؛ فهو سبحانه لا يغيبُ عن عِلمه شيءٌ في الأرض ولا في السَّموات ، جليها وخفيها، ظاهرها وباطنها.وهذا يورث مراقبة الله في كل سكاناتنا وحركاتنا. وهذا فيه حضٌّ على تربيةِ الإنسان لنفسِه على امتثالِ ما أمَره الله به، واجتنابِ ما نهاه عنه، وأنْ يتيقَّنَ أنَّ عمَلَه لا يَخفَى على الله، بل هو معلومٌ له سبحانه.
ثم ساق - سبحانه - ما يشهد بشمول قدرته وعلمه فقال
"هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" 6.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ : أي : يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء من ذكر وأنثى ، أبيض أو أسود ، تامًّا أو ناقصًا، طويل أوقصير ، وشقي وسعيد..... وقوله - تعالى - كَيْفَ يَشَاءُ :إخبار منه - سبحانه - بأن هذا التكوين والتصوير فى الأرحام تبع لمشيئته وقدرته وليس خاضعًا لقانون الأسباب والمسببات، إذ هو الفعال لما يريد.
فهو وحده القادر على تصوير خلقه بتلك الصور المختلفة المتفاوتة، ومن كان شأنه كذلك. فهو المستحق للعبادة والخضوع، لذا قال سبحانه إثباتًا لاستحقاه وحده العبادة " لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ"
" الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" الذي يقهر كل شيء بقوته وقدرته " ٱلْحَكِيمُ " في كل أفعاله سبحانه . وهذا تأكيد لما قبله، من انفراده بالألوهية، وإبطال إلهية ما سواه، وفي ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام، وحقيقة المعبودية، بعد أن أقام الأدلة الساطعة على ذلك من كونه حيًا قيومًا، مُنزلا للكتب الهادية للناس إلى الحق عالمًا بكل شيء، مصورًا لخلقه وهم في أرحام أمهاتهم كيف يشاء. فهذه الآية الكريمة أيضًا فى مقام التعليل للتي قبلها، لأن قبلها بينت أن الله لا يخفى عليه شيء فى الأرض ولا في السماء، إذ هو العليم بما يسره الإِنسان من كفر أو إيمان أو غيرهما. وهذه الآية تفيد أنه - سبحانه - يعلم أحوال الإِنسان لا بعد استوائه بشرًا سويًا، بل يعلم أحواله وهو نطفة فى الأرحام، بل إنه - سبحانه - ليعلم أحواله قبل أن يكون شيئًا مذكورًا، فهو - كما يقول القرطبي - العالم بما كان وما يكون ومالا يكون.
ومن كان ذلك شأنه فمن الواجب على الذين أوجدهم - سبحانه - فى بطون أمهاتهم، ورباهم ورعاهم وخلقهم خلقًا من بعد خلق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. التفسير الوسيط.
"هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌفَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ "7.
" هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ" أي: هو الَّذي أنزَل عليك- يا محمَّدُ- القُرْآنَ.
" مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ " أي: مِن القُرْآن آياتٌ بيِّناتٌ واضحاتُ الدَّلالة، لا التباسَ فيها على أحدٍ من النَّاسِ، ولا شُبهةَ، ولا إشكالَ.
" هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ" أي: وهذه الآياتُ المُحكَماتُ هي أصل هذا الكتابِ، ومُعظَمُه الَّذي يُرجَعُ إليه عند الاشتباهِ.
المحكم اصطلاحًا، فقد اختلفت أنظار أهل العلم في تعريفه، فقال بعضهم: هو ما عُرِفَ المراد منه؛ وقال آخرون: هو ما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا؛ وعرَّفه قوم بأنه: ما استقلَّ بنفسه، ولم يحتج إلى بيان. ويمكن إرجاع هذه التعريفات إلى معنى واحد، هو معنى البيان والوضوح.
" وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ" أي: ومِن القُرْآنِ آياتٌ أُخَرُ يَلتبسُ معناها، أو تشتبهُ دَلالتُها على كثيرٍ من النَّاسِ أو بعضهم.
المتشابه اصطلاحًا، فعرفه بعضهم بأنه: ما استأثر الله بعلمه، وعرفه آخرون بأنه: ما احتمل أكثر من وجه، وقال قوم: ما احتاج إلى بيان، بردِّه إلى غيره.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ... الآيةَ: أنَّ اللهَ أنزَل المتشابِهَ ليمتحِنَ قلوبَنا في التَّصديق به، فإنَّه لو كان كلُّ ما ورَد في الكتاب معقولًا واضحًا، لَمَا كان في الإيمان شيءٌ من معنى الخضوعِ لأمرِ الله تعالى والتَّسليمِ لرُسلِه
" فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ " أي: فأمَّا الَّذين في قلوبِهم مَيْلٌ عن الحقِّ، وانحرافٌ عنه وضلال ، فيَتعلَّقون بالمتشابِهِ من آياتِ القُرْآن، ويأخذون به ويتركون المُحكَمَ . ويَعْكِسُونَ الأمرَ فيحملون المُحكم على المتشابه.
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُوَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: التأويل يكون بمعنى التفسير، و التأويل بمعنى العاقبة المجهولة. اختلف السلف في الوقف ، أكثر السلف وقف على قوله" إِلَّا اللَّهُ" وجعل الوقف هنا لازمًا، يعني يجب أن تقف. ثم تبتدأ فتقول" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا "
فإن كان المراد بالتأويل التفسير فقراءة الوصل أولى : وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" فتكون الواو للعطف. أي: ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسير القرآن والمتشابه ولا يخفى عليهم برسوخهم في العلم وبلوغهم عمق العلم ، فهم لتمكنهم وثبوت أقدامهم في العلم وتعمقهم فيه يعلمون ما يخفى على غيرهم.
"وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"يوسف:36. أي بتفسير هذه الرؤيا.
أما إذا جعلنا التأويل بمعنى العاقبة والغاية المجهولة فالوقف على: إِلَّا اللَّهُ :أولى ، لأن عاقبة هذا المتشابه وما يؤول إليه أمر مجهول لكل الخلق.يعني هذا المتشابه لا يعلم تأويله المراد به إلا الله عز وجل.
والراسخون في العلم الذين لم يعلموا لا يكلفون في ذلك الفتنة وإنما يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ، وليس في كلام ربنا تناقض ولا تعارض فيسلمون الأمر إلى الله عز وجل، لأنه هو العالم بما أراد.
"هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ"الأعراف:53. قال أبو جعفر في تفسير الطبري: .... هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذبون بآيات الله ويجحدون لقاءه: إلا ما يؤول إليه أمرهم، من ورودهم على عذاب الله، وصِلِيِّهم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به.
مقتبس من:أهل الحديث والأثر.الشيخ محمد صالح العثيمين.

مثال المتشابه :أن يتوهم واهم تناقض القرآن وتكذيب بعضه بعضًا :
لقوله تعالى" مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ... " . سورة النساء / آية : 79 .
ولقوله تعالى في موضع آخر :
" ... وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ ... " . النساء: 78 .
فرد هذا النص المتشابه ، ظاهر التناقض يُرد إلى المحكم الواضح الدلالة ليكون الجميع محكمًا كالآتي :الراسخون في العلم يقولون : إن الحسنة والسيئة كلتاهما بتقدير الله عز وجل ، لكن الحسنة سببها التفضل من الله تعالى على عباده ، أما السيئة فسببها فِعل العبد ؛ كما قال تعالى " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ " . سورة الشورى / آية : 30 .
فإضافة السيئة إلى العبد من إضافة الشيء إلى سببه ، لا من إضافتة إلى مقدِّرِهِ ، أما إضافة الحسنة والسيئة إلى الله تعالى فمن باب إضافة الشيء إلى مُقَدِّرِهِ ، وبهذا يزول ما يُوهِم الاختلاف بين الآيتين لانفكاك الجهة .تفسير سورة البقرة / محمد صالح بن عثيمين / ج : 1 / ص : 48 / بتصرف .
مثال آخر :
أن يتوهم واهم تناقض القرآن وتكذيب بعضه بعضًا لقوله تعالى " إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ... " . سورة القصص / آية : 56 .
لقوله تعالى " .. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"سورة الشورى: 52 .
ففي الآيتين موهم تعارض ، فيتبعه من في قلبه زيغ ، ويظن أن بينهما تناقضًا وهو النفي في الأولى ، والإثبات في الثانية .وأما الراسخون في العلم فيقولون :لا تناقض في الآيتين ، فالمراد بالهداية في الآية الأولى : هداية التوفيق ، وهذه لا يملكها إلا الله وحده ، فلا يملكها الرسول ولا غيره .والمراد بها في الآية الثانية : هداية الدَّلالة ،وهذه تكون من الله تعالى ؛ ومن غيره . فتكون من الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين .
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ: أي:ما يتعظ بهذا إلا أهل العقول الرزينة ، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه. فلا يَنتفعُ بهذا القُرْآن ولا يتذكَّرُ بآياته إلَّا مَن كان له عقلٌ.
"رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ"8.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا : أي: ويقول الرَّاسخونَ في العِلم أيضًا: يا ربَّنا، لا تُمِلْ قلوبَنا عن الهُدى والحقِّ بعد إذ هديتَنا إليه، فوفَّقْتَنا للإيمانِ بمُحكَمِ كتابِك ومتشابِهه، فلا تَجْعَلْنا كالَّذين في قلوبهم زَيغٌ، ممَّن يتَّبِعُ ما تشابهَ من القُرْآن.
عن عبدِ الله بن عمرٍو قال: قال رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"إنَّ قلوبَ بَني آدمَ كلَّها بينَ إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ كقَلبٍ واحِدٍ، يُصرِّفُه حيثُ يشاءُ، ثمَّ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللَّهمَّ مُصرِّفَ القلوبِ، صرِّفْ قلوبَنا على طاعتِكَ"صحيح مسلم :2654.
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً :أي: وأعطِنا يا ربَّنا- تفضُّلًا مِن عندك- رحمةً عظيمةً تَزيدُنا بها إيمانًا وثَباتًا ويقينًا وسَدادًا . ، رحمة عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات.
إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ : أي: إنَّك أنت واسعُ العطايا والهِبَاتِ، كثيرُ الإحسان. الذي عم جودك جميع البريات.
"رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ"9.
أي: ويقول الرَّاسخون في العِلمِ أيضًا: يا ربَّنا، إنَّك تبعَثُ النَّاسَ، وتجمَعُهم في يومٍ لا شكَّ فيه، وهو يوم القيامة، وذلك للفصلِ بينهم، ومجازاةِ كلِّ واحد بعمَلِه.
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ :والميعاد مفعال من الوعد . أي: إنَّ اللهَ لا يُخلِفُ وعده؛ أنَّ مَن آمَن به واتَّبَع رسولَه، وعمِل صالحًا، أنَّه يغفِرُ له.
فقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد: إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله، المبين لأحكامه وشرائعه، الثانية: الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققًا، وعارفًا مدققًا، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علمًا وحالًا وعملًا، الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافيةمما ابتلي به الزائغون المنحرفون، الخامسة: اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله : رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا السادسة: أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب، السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل.تفسير السعدي.
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 05-08-2024, 04:46 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,050
y

"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ" 10.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
وبعد هذا الدعاء الجامع الحكيم الذي حكاه الله - تعالى - عن عبادِهِ المؤمنين عقب ذلك بالحديث عن الكافرين، وعن أسباب كفرهم وغرورهم، وعن سوء عاقبتهم.تفسير الوسيط.
إن الذين كفروا بالحق لما جاءهم، وعموا وصموا عن الاستجابة له، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم يوم القيامة، ولن تدفع عنهم شيئًا من عذاب الله الذي استحقوه بسبب كفرهم، واغترارهم بكثرة المال، وعزة النفر، وقوة العصبية وقد أكد - سبحانه - هذا الحكم ردًا على مزاعمهم الباطلة من أن ذلك سينفعهم فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا" نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ " فبين - سبحانه - أنه بسبب كفرهم الذي أصروا عليه، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم أي نفع من وقوع عذاب الله عليهم.
فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون "وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ"الزمر: 48.
وليس للأولاد والأموال قدر عند الله، إنما ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله الصالحة، كما قال تعالى:
"وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ "سبأ : 37.
وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ: أي: حطبها، الملازمون لها دائما أبدًا. وفى هذا التذييل تهديد شديد للكفار الذين اغتروا بأموالِهم وأولادِهم ببيان أن ما اغتروا به لن يحول بينهم وبين الخلود فى النار.
"كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ " 11.
الدأب: أصله الدوام والاستمرار. يقال: دأب على كذا ، إذا داوم عليه وجَدَّ فيه وتعب. ثم غلب استعماله فى الحال والشان والعادة، لأن من يستمر فى عمل أمدًا طويلًا يصير عادة من عاداته، وحالًا من أحواله .
وآل فرعون: هم أعوانه ونصراؤه وأشياعه الذين استحبوا العمى على الهدى واستمروا على النفاق والضلال حتى صار ديدنا لهم.
والمعنى: حال هؤلاء الكافرين الذين كرهوا الحق الذي جئت به - يا محمد - ولم يؤمنوا بك حالهم فى استحقاق العذاب، كحال آل فرعون والذين من قبلهم من أهل الزيغ والضلال، كفروا بآيات الله، وكذبوا بما جاءت به من هدايات فكانت نتيجة ذلك أن أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر حيث أهلكهم بسبب ما ارتكبوه من ذنوب، والله - تعالى - شديد العقاب على من أتى بأسباب العقاب وهو الكفر والذنوب على اختلاف أنواعها وتعدد مراتبها.
"قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ " 12.
قُل : يا محمد لهؤلاء اليهود وأمثالهم من المشركين الذين كانوا يتفاخرون عليه بأموالهم وبقوتهم ، ويغترون بأموالهم وأولادهم وعصبيتهم، قل لهم ستغلبون وتهزمون فى الدنيا على أيدي المؤمنين وتحشرون يوم القيامة ثم تساقون إلى نار جهنم لتلقوا فيها مصيركم المؤلم. وَبِئْسَ الْمِهَادُ: أي بئس المكان الذى هيأوه لأنفسهم فى الآخرة بسبب سوء فعلهم. والمهاد: المكان الممهد الذى ينام عليه كالفِرَاشِ. فبئس المهاد مهادهم، وبئس الجزاء جزاؤهم.
وفي هذا إشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة وتحذير للكفار، وقد وقع كما أخبر تعالى، فنصر الله المؤمنين على أعدائهم من كفار المشركين واليهود والنصارى، وسيفعل هذا تعالى بعباده وجنده المؤمنين إلى يوم القيامة.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 05-18-2024, 01:59 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,050
y

من آية 13 إلى آية 17
"قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ"13.
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ : أي: عبرة وعظة عظيمة.
الفئة كما يقول القرطبي - الجماعة من الناس، وسُميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها، أي يرجع إليها في وقت الشدة، ولا خلاف في أن الإِشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر،وضَرْبُ الأمثالِ بالأمورِ الواقعةِ أبلغُ في التَّصديقِ والطُّمأنينةِ.
فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وَأُخْرَى كَافِرَةٌ:أي: كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرًا وفخرًا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، فجمع الله بين الطائفتين في بدر، وكان المشركون أضعاف المؤمنين، فلهذا قال : يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ : أي: يرَى المسلِمون الكافرين مثلي عدد المسلمين، وأكد هذا بقوله : رَأْيَ الْعَيْنِ أي رؤية ظاهرة لا لَبْسَ فيها؛ حيث تَلحقُهم أبصارُهم، وإنْ كانوا أكثرَ من ذلك في حقيقةِ الأمر ؛ ليتوكَّلوا على اللهِ، ويَطلُبوا منه الإعانةَ.
والمعنى: قد كان لكم أيها الناس علامة عظيمة، ودلالة واضحة على أن الكافرين سيغلبون ؛ والمؤمنين سيُنْصَرُون بما جرى في غزوة بدر، فقد رأيتم كيف أن الله - تعالى - قد نصر المؤمنين مع قلة عددهم، وهزم الكافرين مع كثرة عَددهم وعُددهم. ولقد كان المؤمنون يرون أعداءهم أكثر منهم عددًا وعُدة ومع ذلك لم يهابوهم ولم يجبنوا عن لقائهم، بل أقدموا على قتالهم بإيمان وشجاعة فرزقهم الله النصر على أعدائهم.
ووصف - سبحانه - الفئة المؤمنة بأنها تقاتل فى سبيل الله، على سبيل المدح لها، والإِعلاء من شأنها، وبيان الغاية السامية التى من أجلها قاتلت، ومن أجلها تم لها النصر فهي لم تقاتل لأجل عَرَض من أعراضِ الدنيا، وإنما قاتلت لإِعلاء كلمة الله ونصرة الحق.
ووصف الفئة الأخرى بأنها كافرة؛ لأنها لم تؤمن بالحق، ولم تتبع الطريق المستقيم، بل كفرت بكل ما يصلحها فى دينها ودنياها.
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ :
أي: واللهُ يُقوِّي بنَصرِه مَن يشاء ممَّن تَقتضي الحِكمةُ نَصْرَه أو تأييدَه.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ: ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى.
"زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ"14.
بعدَ أنْ بيَّن تبارَك وتعالَى عقوبةَ الكافرين، وأنَّهم لن تُغنيَهم أموالُهم ولا أولادُهم مِن عذابِ اللهِ وغضَبِه، حذَّر أهلَ الإيمان من أنْ تُلهيَهم زينةُ الدُّنيا وشهواتُها عن الآخرةِ, فذكَر أنَّه زُيِّن للنَّاسِ محبَّةُ عددٍ مِن المشتهَيَاتِ؛ كالنِّساءِ، والبنينَ، وأنواعِ الأموال, هي كلُّها ممَّا يُستمتَعُ به في الدُّنيا مِن زينتِها المنتهيَةِ بالزَّوالِ, تذهب لذاتها ومسراتها، وتبقى تبعاتها وآلامها، ثم قرر أن ما عنده خير وأبقى من متاع الدنيا وشهواتها وزخرفها ومغرياتها، فعند الله سبحانه حُسْنُ المرجِعِ والثَّوابِ.
ذكر المفسرون في المزَيِّن في الآية قولين: أحدهما: أن المزَيِّن هو الله. ثانيهما: أن المُزَيِّن هو الشيطان.
قال القرطبي "فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء – بالضوابط الشرعية .
وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها. فتزيين الشيطان إنما كان بالنسبة لأعمال هؤلاء؛ يعني: زين لهم الأعمال، أما الأشياء المخلوقة فالذي يزينها هو الله عز وجل.
حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ :فحب الشهوات ـ حاصل لجميع الناس ليُنْتَفَع بها بطريق مشروع على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة، وهذا ممدوح ومطلوب شرعًا، أما إذا كان تحصيلها والاستمتاع بها بطريق غير مشروع، فذلك محرم، ولكن قد يحصل للإنسان محبة لبعض المحرمات، بمعنى الميل إليها بطبعه لكنه لا يسعى لتحصيلها، ولا يحب ذلك ، فلا شيء عليه.
مِنَ ٱلنِّسَاءِ:ولا شك أن المحبة بين الرجال والنساء شيء فطري في الطبيعة الإنسانية.واكتفى القرآن بذكر محبة الرجل للمرأة مع أن المرأة كذلك تحب الرجل بفطرتها لأن ذكر محبة أحدهما للآخر يغني عن ذكر الطرفين معًا، وما يستفاد بالإِشارة يُستغنَى فيه عن العبارة خصوصًا فى هذا المجال الذي يحرص فيه القرآن على تربية الحياء والأدب في النفوس.
وَٱلْبَنِينَ:قال الرازي "اعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة؛ فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل، ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية؛ ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات، والحكمة فيه بقاء النسل"انتهى.
وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ :والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد.
وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر... فيكون مذمومًا، وتارة يكون للنفقة في وجوه البر فيكون محمودًا..
وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ :أسامَ الماشيةَ :سامَها، أخرجها إلى المرْعى ،وقال آخرون " َٱلْخَيْل ٱلْمُسَوَّمَة " المعلَّمَة ،ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة. وحب الخيل على ثلاثة أقسام، تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوًا عليها فهؤلاء يثابون. وتارة تربط فخرًا ومناوأة لأهل الإِسلام فهذه على صاحبها وزر. وتارة تربط للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس صاحبها حق الله فيها فهذه لصاحبها ستر.تفسير ابن كثير وصادر أخرى.
ٱلأَنْعَام : جمع نعم، وهى الإِبل والبقر والغنم ،وهي مال أهل البادية ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم، وبها تفاخرهم وتكاثرهم.
وَٱلْحَرْث: مصدر بمعنى المفعول أي المحروث. والمراد به المزروع سواء أكان حبوبًا أم بقلًا، أم ثمرًا إذ من هذه الأشياء يتخذ الإِنسان مطعمه وملبسه وأدوات زينته،وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر.
فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين: قسم: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادًا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب، والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاءً وامتحانًا لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقًا يتزودون منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها " ذلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا " فجعلوها مَعْبَرًا إلى الدار الآخرة ومتجرًا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادًا إلى ربهم.
وهذه المشتهيات ليست خسيسة في ذاتها، ولا يقصد الإِسلام إلى تخسيسها في ذاتها أو إلى التنفير منها، وإنما الإِسلام يريد من أتباعه أن يقتصدوا في طلبها، وأن يطلبوها من وجوهها المشروعة، وأن يضعوها في مواضعها المشروعة، وأن يشكروا الله عليها، وألا يجعلوها غاية مقصدهم في هذه الحياة إن الإِسلام لا يحارب الفطرة الإِنسانية التي تشتهي هذه الأشياء، وإنما يهذبها ويضبطها ويرشدها إلى أن تضع هذه الأشياء في موضعها المناسب، بحيث لا تطغى على غيرها ولا تستعمل في غير ما خلقها الله من أجله، وبذلك يسعد الإِنسان في دينه ودنياه وآخرته.
وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ:إشارة إلى أن متع الدنيا مهما كثرت وتنوعت وتلذذ بها الإِنسان فهي إلى زوال، وأما اللذائذ الباقية الخالدة فهي التي أعدها الله - تعالى - لعباده المتقين في الدار الآخرة.فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه، والشغل الشاغل له عن آخرته، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين ووفق لخير الحياتين كما قال" وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" البقرة: 201. أي: سؤال من خير الدنيا كله بأوجز لفظ وعبارة، فجمعت هذه الدعوة كل خير يتمناه العبد، فإنّ الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودارٍ رحبةٍ، وزوجةٍ حسنةٍ، ‏ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيءٍ، وثناء جميل، إلى غير ذلك. "وَفي الآخِرةِ حَسنَةً" يَعني: وأعطِنا في الآخرَةِ الجَنَّةَ، وَما فيها مِنَ النَّعيمِ المُقيمِ، "وقِنا عَذَابَ النَّارِ" أي: وَاحفَظْنا مِن عَذابِ النَّارِ، وَما يُقرِّبُ إليه مِن عَملٍ.
" قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ"15.
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْبِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ: الإِنباء معناه الخبر العظيم الشأن.النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له شأن عظيم كما قاله أبو البقاء في الكليات.فبعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالًا - أمر رسولَهُ بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.
وقوله "بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ " يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها، ولا شك في ذلك إذ هي من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الناس، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها ، مثل من يستعمل عقله في استنباط الحيل ليبتز حقوق الناس ويؤذيهم، فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هي في ذاتها شر ولا كون حبها شرًا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة. فنعيم الآخرة خير محض ونعيم الدنيا مشوب بالشرور والأضرار.
ذلِكُمْ : لاشتماله على الإِشارة التى للبعيد الدالة على عظم شأن ما سيخبرهم به.
والاستفهام للتقرير، والمراد به التحقيق والتثبيت في نفوس المخاطبين، أي تحقيق وتثبيت خيرية ما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا، وحضهم على الاستجابة لما سيلقَى عليهم.
لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا: هذه هى اللذائذ والمتع التي أعدها الله - تعالى - لمن اتقاه، أي أدى ما أمره به، وابتعد عما نهاه عنه.
عِندَ رَبِّهِمْ: العِنديَّةُ هنا: تُفيدُ فضلًا عظيمًا؛ لأنَّها هي القُربُ مِن الله عزَّ وجلَّ.
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ: أي بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار، وفي هذه الجنات مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
"في الجنةِ مالَا عينٌ رأَتْ ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ ، ولا خَطَرَ على قلْبِ بَشَرٍ "الراوي : أبو سعيد الخدري - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع -الصفحة أو الرقم : 4246 - خلاصة حكم المحدث : صحيح .
خَالِدِينَ فِيهَا:أي أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم خالدين في تلك الجنات التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خلودًا أبديًا، بخلاف أولئك المنعمين بنعم الدنيا فإن نعيمهم إلى فناء وزوال.
وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ:والأزواج: جمع زوجة وهي المرأة يختص بها الرجل. أي ولهم في تلك الجنات أزواج مطهرة غاية التطهير من كل دنس وقذر حسي ومعنوي، فقد وصف - سبحانه - هؤلاء الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل ما يتمناه الرجل في المرأة.
وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ:وهذه النعمة هي أعظم النعم وأجلها أي لهم رضا عظيم من خالق الخلق، ومبدع الكون، ومنشىء الوجود. وهو مصدر كالرضا، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم، لأن زيادة المبنَى تدل على زيادة المعنَى، ولأن التنكير قُصد به التفخيم والتعظيم.
إنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالَى يقولُ لأهْلِ الجَنَّةِ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، فيَقولونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيْكَ، فيَقولُ: هلْ رَضِيتُمْ؟ فيَقولونَ: وما لنا لا نَرْضَى وقدْ أعْطَيْتَنا ما لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِن خَلْقِكَ؟ فيَقولُ: أنا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِن ذلكَ، قالوا: يا رَبِّ، وأَيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِن ذلكَ؟ فيَقولُ: أُحِلُّ علَيْكُم رِضْوانِي، فلا أسْخَطُ علَيْكُم بَعْدَهُ أبَدًا."الراوي : أبو سعيد الخدري - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم : 6549.
أُحِلُّ علَيْكُم رِضْوانِي، فلا أسْخَطُ علَيْكُم بَعْدَهُ أبَدًا:الرضوان أي رضا الله.أي: أُنزِل عليكم دَوَام رِضْوانِي؛ فإنَّه لا يَلزَمُ مِن كَثرةِ العطاءِ دَوامُ الرِّضا؛ ولذا قال: فلا أسْخَطُ: ولا أَغْضَبُ " علَيْكُم بَعْدَهُ أبَدًا" والرضا والرضوان بمعنى واحد، إلا أن الرضوان يعبَّر به عن الرضا الكثير، وأعظمُ الرِّضَا رضا الله تعالى، لذا خُصّ الرّضوانُ في القرآن بما كان من الله تعالى.
قال ابنُ حَجَرٍ:فيه أنَّ الخيرَ كُلَّه والفَضلَ والِاغتِباطَ إنَّما هو في رِضا اللهِ سُبحانَه وتعالى، وكُلُّ شيءٍ ما عَداه وإنِ اختَلَفَت أنواعُه فهو مِن أثَرِه.
وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ: أي أنه - سبحانه - عليم بأحوال عباده، لا تخفى عليه خافية من شئونهم. وسيجازي الذين أساءوا بما عملوا، ويجازي الذين أحسنوا بالحسنى. ففي هذا التذييل وعد للمتقين ووعيد للمسيئين.وقد ختم سبحانه هذه الآية بتلك الجملة ليحاسب الإنسان نفسه على التقوى، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعدّ متقيًا، وإنما المتقي من يعلم منه ربه التقوى.
" ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ"15.
إسقاطُ أداة النِّداء فيرَبَّنَا؛ إشعارًا بما لهم من القُرب؛ لأنَّهم في حَضرةِ المراقبةِ .
يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا :مرادهم بالإيمان الذي أقروا به - هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.
فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ:
توسلوا بمنةِ اللهِ عليهم بتوفيقهم للإيمان أن يغفرَ لهم ذنوبَهم ويقيهم شر آثارها وهو عذاب النار، ثم فصل أوصاف التقوى.
"الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ" 17.
وصف- سبحانه- المتقين بخمس صفات كريمة من شأنها أن تحمل العقلاء على التأسي بهم ، وفي كل صفة من صفاتهم دليل على قوة إيمانهم، وإذعانهم للحق حق الإذعان.
الصَّابِرِينَ: الصابرين أنفسهم على ما يحبه الله من طاعته، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة.والصبر في البأساء والضراء وحين البأس من أكبر البراهين على سلامة اليقين، وقد حث القرآن أتباعه على التحلي بهذه الصفة في أكثر من سبعين موضعًا.
وَالصَّادِقِينَ: الصادقين في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم . قال قتادة : هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية .
وَالْقَانِتِينَ : والقانت هو المداوم على طاعة الله- تعالى- غير متململ منها ولا متبرم بها، ولا خارج على حدودها. فالقنوت يصور الإذعان المطلق لرب العالمين.
وَالْمُنفِقِينَ:أي:المنفقين مِن أموالِهم في جميعِ ما أُمِروا به من الطَّاعاتِ؛ كأداءِ الزَّكاةِ والصَّدقات، وصلةِ الأرحام والقَرابات، ومواساةِ ذوي الحاجاتِ، وغيرِ ذلك مِن الوجوه الَّتي أذِنَ اللهُ لهم بالإنفاقِ فيها.
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ :أي: السَّائلين المغفرةَ في آخِرِ اللَّيل ؛ فهو وقتُ نُزولِ اللهِ عزَّ وجلَّ إلى سماءِ الدُّنيا؛ ففي الحديثِ عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّم" يَنْزِلُ ربُّنا تباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا، حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ، يقولُ: من يَدعوني فأَستجيبَ له، من يَسْأَلُني فأُعْطِيَه، مَن يستغفرُني فأَغْفِرَ له؟" رواه البخاري 1145 ومسلم 758.


وخُص وقتُ الأسحارِ بالذكر لأن النفس تكون فيه أصفى، والقلب فيه أجمع، ولأنه وقت يستلذ فيه الكثيرون النوم فإذا أعرض المؤمن عن تلك اللذة وأقبل على ذكر الله كانت الطاعة أكمل وأقرب إلى القبول.

التعديل الأخير تم بواسطة زينب ; 05-18-2024 الساعة 02:09 AM
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 07-07-2024, 04:25 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,050
y

تفسير سورة آل عمران
من آية 18 إلى آية 25
" شَهِد اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"18.
بعد أنْ ذكَر اللهُ ثناءَه على المؤمنين, وبعد أن بيَّنَ - سبحانه - ما أعده للمتقين، وذكر صفاتَهم عقَّبَ ذلك ببيان أساس التقوى وهو عقيدة التوحيد، فجاء ليُقرِّر التَّوحيدَ بأعظمِ الطَّرائقِ الموجِبة له، وهي شَهادتُه سبحانه؛ فشهِد أنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلَّا هو ، أي: عَلِمَ اللهُ تعالى أنَّه لا معبودَ حقٌّ إلَّا هو، وتكلَّمَ بذلك، وأخبر به خلْقَه، وأَمَرَهم وأَلْزَمهم به. وأتْبَع شَهادتَه بذِكْرِ شَهادةِ ملائكتِه وأُولي العِلم مِن عبادِهِ؛شهادة الملائكة وأولي العلم بمعنى آخر وهو الإقرار،
جعَل اللهُ الملائكةَ في المرتبةِ الأُولى في الشَّهادةِ بالتَّوحيدِ بعدَه سبحانه؛قيل: لبيان فضيلتِهم، ولأنَّهم الملأُ الأعلى، وعِلمُهم كلُّه ضروريٌّ – وهو العلم الحاصل دون نظر، أو استدلال، ولا يمكن الانفكاك عنه، ولا الخروج منه، ولا التشكيك فيه.، ومن العلوم الضرورية العلم الحاصل ببديهة العقل، كالعلم بأن الكلَّ أعظمُ من الجزء، وأنَّ النفي والإثبات لا يجتمعان.-، بخلاف البشَر؛ فإنَّ عِلمَهم ضروريٌّ واكتسابيٌّ – العلم الاكتسابي الذي يُعلم بالحواس والقرائن . العِلْمُ المُكْتَسَبُ: فَهُوَ المَوقُوفُ عَلَى النَّظَرِ والاسْتِدْلالِ" ويدرك بالحواس الخمس، وذلك كالعلم بأن العالم حادث، فإنه موقوف على النظر في العالم ومشاهدة تغيره، فينتقل الذهن من تغيُّره إلى الحكم بحدوثه. وفي هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء، لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن العلماء.
والمراد بأولى العلم هنا جميع العلماء الذين سخروا ما أعطاهم الله من معارف في خدمة عقيدتهم، وفيما ينفعهم وينفع غيرهم، وأخلصوا الله في عبادتهم، وصدقوا في أقوالهم وأفعالهم.
قَائِمًا بِالْقِسْطِ : والقسط: العدل. أى: مقيما للعدل فى تدبير أمر خلقه، وفى أحكامه. وفيما يقسم بينهم من الأرزاق والآجال، وفيما يأمر به وينهى عنه، وفى كل شأن من شئونه.
لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: تكرير للمشهود به للتأكيد والتقرير.
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:ختم سبحانه الآية بهذين الاسمين لأنَّ العزَّةَ تُلائِمُ الوحدانيَّة، والحِكمة تُلائِمُ القيامَ بالقِسط، فأتى بهما لتقريرِ الأمرينِ على ترتيبِ ذِكرهما.صفتان مقررتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل. أي لا إله في هذا الوجود يستحق العبادة بحق إلا الله " ٱلْعَزِيزُ " الذى لا يمتنع عليه شىء أراده، وينتصر من كل أحد عاقبه أو انتقم منه، " ٱلْحَكِيمُ " فى تدبيره فلا يدخله خلل من ظلم وغيره.
ففي الآية الشَّهادةُ له بالتَّوحيد، والعَدْل، والقُدرة والعِلم والحِكمة؛ ولهذا كانتْ أعظمَ شَهادةٍ.
" إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ "19.
وأصل الدين في اللغة الجزاء والحساب ، ومنه قولهم: كما تَدين تُدان أي، كما تفعل تجازى.والمراد به هنا ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من عند ربه من عقائد وتكاليف وتشريعات، فيكون بمعنى الملة والشرع. . قال ابن كثير: وقوله- تعالى- إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ :إخبار منه تعالى - بأنه لا دين عنده يقبله من أحدٍ سوى الإِسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى خُتِمُوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله تعالى - بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل. كما قال- تعالى" وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ...." الآية.ا.هـ.
فالإِسلام هو الدين الذي ارتضاه الله - تعالى - للناس، وأن من يعارض في ذلك معارضته داحضة وسيعاقبه الله بما يستحقه.
وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ:
بيَّن - سبحانه - أن اختلاف أهل الكتاب في شأن الدين الحق لم يكن عن جهل منهم بالحقائق وإنما كان سببه البغي والحسد وطلب الدنيا.
وفي التعبير عنهم بأنهم أُوتُوا الْكِتابَ زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وأفحش، إذ الكتاب ما نزل إلا لهدايتهم، وسعادتهم فإذا تركوا بشاراته وتوجيهاته واتبعوا أهواءهم كان فعلهم هذا أشد قُبحًا وفُحشًا.
وقوله "إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ" زيادة أخرى في تقبيح أفعالهم، فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القبح والعناد.
ثم ختم- سبحانه- الآية بهذا التهديد الشديد فقال :وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ: أي: ومن يكفر بآيات الله الدالة على وحدانيته- سبحانه- فإن الله مُحْصٍ عليه أعمالَه في الدنيا وسيعاقبه بما يستحقه في الآخرة. وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل والقدرة التامة فهو- سبحانه- لا يحتاج إلى فحص وبحث، لأنه لا تخفى عليه خافية.
"فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ "20.
ثم لقن الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم ما يرد به على أهل الكتاب إذا ما جادلوه أو خاصموه ليحسم الأمر معهم ومع غيرهم من المشركين وليمضى في طريقه الواضح المستقيم فقال- تعالى:
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ : وقوله حَاجُّوكَ من المحاجة وهي أن يتبادل المتجادلان الحجة، بأن يقدم كل واحد حجته ويطلب من الآخر أن يرد عليها أو يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعم أنه الحق الذي لا شك فيه.
والمعنى: فإن جادلك- يا محمد- أهل الكتاب ومن على شاكلتهم؛ بالأقاويل المزورة والمغالطات الباطلة بعد أن قامت الحجج على صدقك؛ فلا تلتفت إلى أكاذيبهم ولجاجتهم ، بل قل لهم أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ أي أخلصت عبادتي الله وحده، وأطعته ، وكذلك من اتبعني وآمن بي قد أسلم وجهه لله وأخلص له العبادة.والمراد بالوجه هنا الذات، وعبر بالوجه عن سائر الذات لأنه أشرف أعضاء الشخص، ولأنه هو الذي تكون به المواجهة، وهو مجمع محاسن الجسم فالتعبير به عن الجسم كله تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل.
وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ: والمراد بالأميين الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب.والاستفهام في قوله أَأَسْلَمْتُمْ للحض على أن يسلموا وجوههم الله، ويتبعوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما اتبعه المسلمون. ثم بين- سبحانه- ما يترتب على إسلامهم من نتائج، وما يترتب على إعراضهم من شرور تعود عليهم فقال : فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ:
أي: فإن أسلموا وجوههم لله وصدَّقوا بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فقد اهتدوا إلى طريق الحق، لأن هذا الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للناس، وإن أعرضوا عن هذا الطريق المستقيم، فإن إعراضَهم لن يضرك- أيها الرسول الكريم- لأن الذي عليك إنما هو تبليغ الناس ما أمرك الله بتبليغه إياهم . وهو- سبحانه- بصير بخلقه لا تخفى عليه خافية من أقوالهم أو أفعالهم، وسيجازي كل إنسان بما يستحقه.وعبر بالماضي في قوله فَقَدِ اهْتَدَوْا مبالغة في الإخبار بوقوع الهُدَى لهم.
"والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كانَ مِن أصْحابِ النَّارِ.الراوي : أبو هريرة -صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم : 153-
"كانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأَسْوَدَ" الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم : 521.
"إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ "21.
هناك فرق بين الكفر بآيات الله وبين الكفر بالله. لماذا؟ لأن الإيمان بالله يتطلب البينات التي تدل على الله، والبينات الدالة على وجود الله موجودة في الكون.إذن فالبينات واضحة، إن الذي يكفر بالله يكون قبل ذلك كافرًا بالأدلة التي تدل على وجود الخالق.
يُخبِرُ اللهُ تبارَك وتعالَى- ذامًّا- الَّذين كفَروا بآياتِه أي يكفرون بالآيات المثبتة لوحدانيته سبحانه ، وبالرسل الذين جاءوهم بالهدى والحق, ولم يَكتَفُوا بذلك، بل أَمعَنوا في طُغيانهم، وازدادوا في ضَلالِهم, فقتَلوا أنبياءَ الله ورُسلَه بغير جُرْمٍ ولا جَرِيرةٍ ولا شُبْهَة ، وقتَلوا كذلك مَن يدعو إلى العدلِ، ويأمُرُ بالمعروف ويَنهى عن المنكر مِن عبادِ الله؛ فأمَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُخبِرَهم بما ينتظرُهم من عذابٍ أليم, وعقابٍ موجِعٍ, جزاءً على كُفرِهم وسيِّئِ أعمالِهم.فقال تعالى : فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
وأخبَر سبحانه وتعالى أنَّ أعمالَ هؤلاء باطلةٌ, لا يَنتفعون بها ولا بآثارِها، لا في دُنياهم ولا في أُخراهم , ولن يَجِدوا نَصيرًا يَنصرُهم ولا مُنقِذًا من عذابِ الله إذا حلَّ بهم.
"أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ"22.
والمراد بحبوط أعمالهم إزالة آثارها النافعة من ثواب في الآخرة وحياة طيبة في الدنيا، لأنهم عملوا ما عملوا وهم لا يرجون الله وقارا.
فلا يَنتفعون بثوابِ أعمالِهم في الآخرةِ، مع ما أعدَّ لهم فيها من العقابِ.
وما لهؤلاءِ القومِ مِن ناصرٍ ينصُرُهم من بأس الله وعقابه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، الله- تعالى- قد وصفهم بصفات ثلاث: بالكفر وقتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس.وتوعدهم- أيضًا- بثلاثة أنواع من العقوبات: بالعذاب الأليم، وحبوط أعمالهم في الدنيا والآخرة، وانتفاء من ينصرهم أو يدافع عنهم.
وبعد أن وصف القرآن هؤلاء المعاندين بالكفر وقتل الأنبياء والمصلحين وبين سوء مصيرهم، أتبع ذلك ببيان رذيلة من أفحش رذائلهم وهي أنهم يدعون إلى التحاكم إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به، فيمتنعون عن ذلك غرورًا وعنادًا، قال تعالى:
" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ" 23.
يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم الله عليهم بكتابه، فكان يجب أن يكونوا أقوم الناس به وأسرعهم انقيادا لأحكامه، فأخبر الله عنهم أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم يعرضون، تولوا بأبدانهم، وأعرضوا بقلوبهم، وهذا غاية الذم، وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل كفعلهم، فيصيبنا من الذم والعقاب ما أصابهم، بل الواجب على كل أحد إذا دعي إلى كتاب الله أن يسمع ويطيع وينقاد، كما قال تعالى : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ"النور: 51.
" ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ " 24.
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي صرفتهم عن الحق. واسم الإشارة ذلِكَ : يعود إلى المذكور من توليهم وإعراضهم المذكور في الآية السابقة.
والمراد منأَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ : المحصورات القليلات يقال شيء معدود: أي قليل وشيء غير معدود أي كثير. فهم يزعمون أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة قد تكون سبعة أيام، وقد تكون أربعين يومًا، وبعدها يخرجون إلى الجنة.
وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ: والسبب الذي غر وخدع أهل الكتاب بتجرئهم على معاصي الله هو ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة وبعدها يخرجون إلى الجنة.
وقوله وَغَرَّهُمْ من الغرور وهو كل ما يغر الإنسان ويخدعه من مال أو جاه أو شهوة أو غير ذلك من الأشياء التي تغر الإنسان وتخدعه وتجعله غافلا عن اتباع الحق.
قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا :
"فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ " 25.
الاستفهام هنا للاستعظام والتهويل والرد على مزاعمهم الباطلة.
أي : كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والله تعالى سائلهم عن ذلك كله ، ومحاسبهم عليه ، ومجازيهم به، كيف يكون حالهم إذا جمعناهم لجزاء يوم لا ريب في مجيئه وحصوله – يوم القيامة، واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا، بل يجازى كل إنسان على حسب عمله، لا شك أنهم في هذا اليوم الهائل الشديد سيفاجأون بذهاب غرورهم، وبفساد تصورهم، وأنهم سيقعون في العذاب الأليم الذي لا حيلة لهم في دفعه، ولا مخلص لهم من ذوقه يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 08-12-2024, 03:53 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,050
افتراضي

من آية 26 إلى آية41

"قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" 26.
لَمَّا أخْبَر تعالى أنَّ الكفَّارَ سيُغلَبون، وأنَّه ليس لهم من ناصرين، كان حالُهم مقتضيًا لأنْ يقولوا: كيف نُغلَبُ مع قوَّتنا وكثرتِنا وقلَّة أعدائِنا وضَعْفِهم؟ فقال الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ....
أمَر اللهُ سُبحانَه وتَعالَى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَدْعوَه معظِّمًا له, مُوكِلًا الأمرَ إليه، ومفوضًا الأمر إليه فيقول: يا أللهُ، يا مَن لكَ جميعُ المُلك، وجميعُ الأمْر في الدُّنيا والآخِرة، تُصرِّف جميعَ الممالك وتُدبِّرُها, أي: قُلْ- يا محمَّدُ-: يا أللهُ ، يا مَن لك الملكُ كلُّه؛ مُلكُ الدُّنيا والآخِرة، فتملِك جميعَ الممالكِ وتُصرِّفها وتُدبِّرها .
ثمَّ فصَّل في بعضِ وجوه تصاريفِه وتدابيرِه في مُلكِه فقال:
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ:
فتُعطي المُلْك من تشاءُ من عِبادك, وتَنزِعه ممَّن تشاء, وتُعِزُّ مَن تشاءُ: تُعزَّه بطاعتِك، أو بإعطائِه المُلكَ، وبَسْطِ القدرةِ له، أو نَصْرِه، وغير ذلك، وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ : أي: وتذلُّ مَن تشاءُ أنْ تذلَّه بمعصيتِك، أو بسَلْبِ مُلكِه، وتسليطِ أعدائِه عليه، أو هزيمتِه، وغير ذلك ؛ بِيَدِكَ الْخَيْرُ: فأنت الخيرُ كلُّه بيديك، لا يُشارِكك فيه أحدٌ, إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ :وأنت قادرٌ على كلِّ شيءٍ، فلا شيءَ يمتنع عليك, ولا يحُول بينك وبين ما تُريد حائلٌ.
"تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"27.
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ : ثم ذكر- سبحانه- مظهرا حسيا من مظاهر قدرته الباهرة فقال: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ.

الولوج في الأصل: الدخول، والإيلاج الإدخال. يقال: ولج فلان منزله إذا دخله، فهو يلجه ولجا وولوجا. وأولجته أنا إذا أدخلته، ثم استعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب.
أي أنت يا الله يا مالك الملك. أنت الذي بقدرتك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل ويزيد النهار، وتدخل طائفة من النهار في الليل فيقصر النهار ويزيد الليل، وأنت وحدك الذي بقدرتك أن تجعلهما متعاقبين بأن تأتي بالليل رويدًا رويدًا في أعقاب النهار، وتأتي بالنهار شيئا فشيئا في أعقاب الليل. وفي كل ذلك دليل على سعة قدرتك، وواسع رحمتك. وتذكير واعتبار لأولى الألباب.
ثم ذكر- سبحانه- مظهرا حسيا آخر من مظاهر قدرته فقال:
وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ:
والحياة والموت معنويان .قال الفخر الرازي: ذكر المفسرون فيه وجوها:
أحدها: يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح.
والثاني: يخرج الحيوان- وهو حي- من النطفة- وهي ميتة-، والدجاجة- وهي حية- من البيضة – وهي ميتة- أو العكس.
والثالث: يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس،ثم قال:والكلمة محتملة للكل. أما الكفر والإيمان فقال- تعالى" أَوَمَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ" الأنعام : 122.يريد كان كافرًا فهديناه، فجعل الكفر موتًا والإيمان حياة، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل ما قبل ذلك ميتة فقال" يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها" الحديد: 17. وقال: "فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها"فاطر: 9. وقال" كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ".البقرة: 28.
وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ :
ثم ختم- سبحانه- مظاهر قدرته ورحمته بقوله وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ والرزق- كما يقول الراغب- يقال للعطاء الجاري دنيويًا كان أو أُخرويًا.ا.هـ. فكل ما يصل إلينا من خير ونعمة هو من رزق الله قال- تعالى-: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ" المنافقون: مِنْ ما رَزَقْناكُمْ :أى: من المال والجاه والعلم .....
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الرزق ما ينتفع به الإنسان، وهو نوعان: رزق يقوم به البدن :هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك، ورزق يقوم به الدين :هو العلم والإيمان.ا.هـ.
الكثير من الناس ينظرون إلى الرزق نظرة ضيقة قاصرة فهم يتصورون أنه المال فحسب!! كلا
قال ابن منظور في لسان العرب: الرزق هو ما تقوم به حياة كل كائن حي مادي كان أو معنوي.
فالإيمان رزق وحب النبي رزق وحب الصحابة رزق والعلم رزق والخُلقُ رزق والزوجة الصالحة رزق والحب في الله رزق والمال رزق وما أنت فيه الآن رزق وصيامك للنهار رزق وقيامك الليل رزق والحكمة ، والسكينة رزق ، رزق والعافية رزق والبصيرة رزق إلى غير ذلك......والرّزاق بكل هذه الأرزاق هو الله.
الرزق يُبارَك فيه بالطاعة وشكر النعمة قال تعالى "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ" أي: أعلم ووعد "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" إبراهيم: 7.، ، ويُمحق الرزقُ بالمعصيةِ، فتذهب بركتُه وإن كان كثيرًا ظاهرًا؛ لأن ما عند الله تعالى لا يُنال إلا بطاعته؛ قال ابن القيم - رحمه الله -: "والشكرُ يتعلَّقُ بالقلبِ واللسان والجوارح؛ فالقلبُ للمعرفةِ والمحبة، واللسانُ للثناءِ والحمد والجوارح، لاستعمالِها في طاعةِ المشكور، وكفها عن معاصيه"؛ عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم.
فلنتذكر نعمَ الله في كلِّ وقت وحين شاكرين لأنعمِه، فبشكرها تدوم وتتنامى وتزداد، وبكفرِها يحصلُ الحرمان والبلاء.
قال وهب بن منبه: "رؤوس النِّعم ثلاثة؛ فأولها: نعمةُ الإسلامِ التي لا تتمُّ نعمُه إلا بها، والثانية: نعمةُ العافية التي لا تطيبُ الحياةُ إلا بها، والثالثة: نعمة الغنى التي لا يتمُّ العيشُ إلا به"؛ عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم.
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال‏:‏ كان من دعاء رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم "‏اللهم إني أعوذ بك من زوالِ نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتِك، وجميع سخطك"؛‏ رواه مسلم‏.
قال ابن القيم - رحمه الله - عن الشكرِ؛ يقول: "وشكرُ العبد يدور على ثلاثةِ أركان لا يكون شكورًا إلا بمجموعها؛ أحدها: اعترافه بنعمةِ الله عليه، والثاني: الثناء عليه بها، والثالث: الاستعانة بها على مرضاتِه"؛ عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم.
ربنا أوزعنا أن نشكرَ نعمتَك التي أنعمتَ علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحًا ترضاه، وأصلح لنا في ذرياتِنا، وتب علينا، اللهم عافنا في أبداننا، وعافنا في أسماعِنا، وفي أبصارنا، لا إله إلا أنت، اللهم ما أصبح أو أمسى بنا من نعمةٍ فمنك وحدك لا شريكَ لك؛ فلك الحمد ولك الشكر، اللهمَّ إنا نصبحُ ونمسي في نعمةٍ وعافية وستر دائمِ فأتم نعمتَك علينا وعافيتك وسترَك في الدنيا والآخرة.
" لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ"28.
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنَّه مالكُ المُلك، وأنَّ بيده مجامعَ الخير، والسُّلطانَ المطلقَ في تصريف الكون، يُعطي مَن يشاء، ويَمنعُ مَن يشاء، ويُعزُّ مَن يشاء، ويُذلُّ مَن يشاء، فإذا كانت العزَّةُ والقوَّة له- عزَّ شأنُه- فمِن الجهلِ والغرورِ الاعتزازُ بأحدٍ من دونه، أو اللُّجوءُ إلى غيرِ بابِه، أو موالاةُ أعدائه لذا عَقَّبَ ذلك بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه . وكلمة "اتخذ" تدل على اصطناع الشيء والركون إليه والالتجاء إليه، مثل قولك: اتخذت هذا صاحبًا، أي: جعلته واصطنعته واخترته، فالمعنى: لا يختار المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين.العثيمين.
وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ: أي: ومَن يفعلْ ذلك المذكورَ فيتَّخِذهم أولياءَ من دون المؤمنين، فقد بَرِئ مِن اللهِ، وبرِئَ اللهُ منه. قال- سبحانه- فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ ولم يقل "فليسَ مِنَ ولايةِ اللهِ" للإشعار بأن من اختار مناصرة المشركين وموالاتهم فقد ترك ذات الله- تعالى- وكان مُؤثِرًا لقوة الكفار على قوة العزيز الجبار، فهو في هذه الحالة يعاند الله نفسه،. ثمَّ استَثْنَى اللهُ تبارَك وتعالَى من ذلك مُداراةَ الكفَّار مداراةً ظاهرةً, وإظهارَ موالاتهم باللِّسانِ مع إضمارِ البُغض والكُره, في حالة الخوفِ من شُرورِهم فقال: إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً .
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَمُدَاهَنَتِهِمْ وَمُبَاطَنَتِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الكفار غالبين ظاهرين على المؤمنين، أَوْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ فِي قَوْمٍ كفار يخافهم فيداريهم ويداهنهم بِاللِّسَانِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ دَفْعًا عن نفسه مضارتهم ما أمكن، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِلَّ دَمًا حَرَامًا أَوْ مَالًا حَرَامًا أَوْ يُظْهِرَ الْكُفَّارَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّقِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ خَوْفِ الْقَتْلِ والخوف على سلامة العِرض ، مع َسَلَامَةِ النِّيَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ "النَّحْلِ: 106. ثُمَّ هَذَا رُخْصَةٌ، فَلَوْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ فَلَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ،
والموالاة الممنوعة هي التي يكون فيها خذلان للدين أو إيذاء لأهله ....، وأما ما عدا ذلك كالتجارة وغيرها من ضروب المعاملات الدنيوية فلا تدخل في ذلك النهي، لأنها ليست معاملة فيها أذى للإسلام والمسلمين .
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ:، أي: ويُخَوِّفُكُمُ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ عَلَى مُوَالَاةِ الكفار وارتكاب المنهي ومخالفة الأمور.فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب ما نهاكم عنه فيعاقبكم على ذلك. كلمة "نَفْسَهُ"تقال لتأكيد التعبير عن الذات. أي أن التحذير قد جاءكم من الله- تعالى- لا من غيره فعليكم أن تمتثلوا أمرَهُ، فإن إليه وحده المآل وانتهاء أمر العباد.
" وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ " تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه. أي: مرجع العباد ليوم التناد، فيحصِي أعمالَهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم، فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة، واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة.
" قُلْإِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"29. "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ"30.
يأمُرُ اللهُ تعالَى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقول تحذيرًا للمؤمنين مِن اتِّخاذِ الكافرين أولياءَ: إنَّكم لو أخفيتُم ما في صُدورِكم, وسترتُم ما في ضَمائرِكم من خيرٍ أو شرٍّ أو عداوة أو ولاية, أو أبديتُم ذلك بأقوالِكم أو أفعالِكم، فإنَّ الله يعلمُه, فيُجازيكم على جميعِ ذلك؛ إنْ خيرًا فخيرٌ, أو شرًّا فشرٌّ؛ فهو الَّذي أحاط علمُه بما في السَّموات وما في الأرض, فلا يَخفَى عليه شيءٌ ولا يَغيبُ عنه, وهو ذو القُدرةِ النَّافذةِ على كلِّ شيءٍ, فلا يُعجِزه شيءٌ في السَّمواتِ ولا في الأرض.
ثمَّ ذكَر موعدَ هذه المجازاة، وهو يومُ القيامةِ, يومَ تجِدُ كلُّ نفسٍ ما عمِلَتْه من الخيرِ والإحسانِ قليلِه وكثيرِه حاضرًا بتمامِه من غيرِ نقصٍ, موفَّرًا من غيرِ تغييرٍ ولا تبديل, أمَّا ما عمِلَتْه من سوءٍ وشرٍّ، فإنَّها تَتمنَّى لو أنَّ بينهما مسافةً بعيدة, وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ: ثمَّ يؤكِّد اللهُ تهديدَه ووعيدَه بتحذيرِ عبادِه مِن نفْسِه, وتخويفِهم من عِقابه, ومُبيِّنًّا أنَّه إنَّما حَذَّرهم لشدَّة رحمتِه بهم, ورأفتِه عليهم.فمن مظاهر رأفته ورحمته أنه حذر عبادَهُ قبل أن يعاقبهم، وأنه يعفو عن كثير من ذنوب عباده، وأنه فتح لهم باب التوبة حتى يقلعوا عن خطاياهم. إلى غير ذلك من مظاهر رأفته ورحمته.
"قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " 31.
لَمَّا نهى الله سبحانه وتعالى عن مُوالاةِ الكفَّارِ ظاهرًا وباطنًا، وكان الإنسانُ ربَّما والَى الكافرَ وهو يدَّعي محبَّةَ الله سبحانه وتعالى، وختَم برأفتِه سبحانه وتعالى بعبادِه، وكانت الرَّأفةُ قد تكونُ عن المحبَّة الموجبة للقُرب، فكان الإخبارُ بها ربَّما دعا إلى الاتِّكال، ووقَع لأجْلِه الاشتباهُ في الحِزبَينِ، جعَل لذلك سبحانه وتعالى علامةً ، فقال:
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ : ومحبة العباد الله- كما يقول الزمخشري- مجاز عن إرادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها، ومحبة الله عباده أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم. أي: قل- يا محمَّدُ- لِمَن يدَّعون محبَّةَ الله: إنْ كنتُم تحبُّون الله كما ادَّعيتم فاتَّبِعوني بتصديق خبَري وطاعةِ أمْري والاقتداءِ بي.
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ : فَمَن كَانَ محبًّا لله لزِم أنْ يتَّبع الرَّسُول، ومَن اتَّبع الرَّسولَ فقد فعَل ما يُحبُّه الله، فيُحِبه الله. ويَغفِرْ له جميعَ ذُنوبِه.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ : ثم ختم- سبحانه- الآية بوصفين جليلين المغفرة والرحمة .الجمعُ بين الغفور والرَّحيم لفائدةٍ عظيمة؛ قيل: هي الجمعُ بين الوقايةِ والعنايةِ؛ بين الوقايةِ مِن شرِّ الذُّنوب بالمغفرة، والعنايةِ بالتَّيسير لليُسرى وتجنيبِ العُسرى بالرَّحمة.
" قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ"32.
ثم كرر- سبحانه- الأمر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يحض الناس على اتباع ما يسعدهم فقال له:قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ.
فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ: أي: أعرضوا عن طاعة الله ورسوله فليس ثم أمر يرجعون إليه إلا الكفر ، لذا يبغضهم الله ويمقتهم ويعاقبهم أشد العقوبة.
" إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ "33.
قوله اصْطَفى من الاصطفاء وهو الاختيار والانتقاء وطلب الصفوة من كل شيء.
يُخبر اللهُ تبارَك وتعالَى أنَّه اجتبَى مِن خَلْقِه واختار من عِبادِه أفرادًا وأُسرًا، امتنَّ عليهم بفضلِه, وأخلَصهم لعبادتِه, فاجتبى آدَمَ ونوحًا عليهما السَّلام فردَينِ، واختارَ إبراهيم وعِمْران وذرِّيَّتهما أُسرتين, فكان هؤلاء هم صفوةَ خَلْقه من العالَمين، وخِيرةَ عباده في الأوَّلين والآخِرين, وجعَلَ الصَّلاحَ والتَّوفيق مُتسلسلًا في ذرِّيَّاتهم؛ فالله تعالى على عِلم تامٍّ بمن يَستحقُّ الاصطفاءَ والاختيارَ من عبادِه؛ فهو السَّميع العليم.
سبحانه وتعالى قد اختار واصطفى آدَمَ أبا البشر، بأن جعله خليفة في الأرض، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته..
واصطفى نُوحًا لأنه- كما يقول الآلوسى- آدم الأصغر، والأب الثاني للبشرية، وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله- سبحانه- وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ.
واصطفى آلَ إِبْراهِيمَ أي عشيرته وذوي قرباه وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما.
واصطفى آلَ عِمْرانَ إذ جعل فيهم عيسى- عليه السّلام- الذي آتاه الله البينات، وأيده بروح القدس.والمراد بعمران هذا والد مريم أم عيسى- عليه السّلام- فهو عمران بن ياشم بن ميشا بن حزقيا.. وينتهى نسبه إلى إبراهيم- عليه السّلام-.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ : فالله تعالى على عِلم تامٍّ بمن يَستحقُّ الاصطفاءَ والاختيارَ من عبادِه؛ فيصطفيه ومن لا يستحق ذلك فيخذله ويرديه، ودل هذا على أن هؤلاء اختارهم لما علم من أحوالهم الموجبة لذلك فضلا منه وكرمًا، ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا أخبار هؤلاء الأصفياء أن نحبهم ونقتدي بهم.
" ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"34.
والمعنى: أن أولئك المصطفين الأخيار بعضهم من نسل بعض، فهم متصلو النسب، فنوح من ذرية آدم، وآل إبراهيم من ذرية نوح، وآل عمران من ذرية آل إبراهيم، فهم جميعًا سلسلة متصلة الحلقات في النسب، والخصال الحميدة.
" إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"35.
والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه، وهذا غير النذر المشروط المكروه. والمحرر: عتيقًا مخصص لله، مُخلَصًا للعبادة لا يشتغل بشىء آخر .
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ:
أي: واذكُرْ إذ قالت امرأةُ عِمْران وهي أم مريم وعمران هو زوجها أبو مريم وليس عمران أبو موسى - وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة على وجه التقريب- عليهم السلام جميعًا: إذ قالت ياربِّ، إنِّي أوجبتُ على نفْسي أنْ أَجعلَ ما في بطني مفرَّغًا لعبادتك، حبيسًا على خِدمةِ بيتِ المقدس . ودَعَتِ الله أنْ يَتقبَّل منها؛ فهو السَّميعُ العليم.السميع لدعائها العليم بإخلاص نذرها ونيتها لله وهذا يستدعي تقبل الدعاء، ورجاء الإجابة تفضلًا منه وإحسانًا. ترى في هذا الدعاء الخاشع الذي حكاه القرآن عن امرأة عمران أسمى ألوان الأدب والإخلاص، فقد توجهت إلى ربها بأعز ما تملك وهو الجنين الذي في بطنها، ملتمسة منه- سبحانه- أن يقبل نذرها الذي وهبته لخدمة بيته، وهذا كان في شريعة من قبلنا وليس في شريعتنا . ولم يكن يحرر في شريعتهم إلا الغلمان، ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى.
"فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ "36.
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى: فلمَّا ولَدت إذَا بالمولودة أُنثى، فاعتذرتْ إلى ربِّها من ذلك؛ حيث وضعت مولودًا لا يصلح لما نذرته- في عرف قومها .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ جملة معترضة سيقت للايماء إلى تعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه، وللإشعار بأن الأنثى ستصلح لما يصلح له الذكور من خدمة بيته. أي: والله- تعالى- أعلم منها ومن غيرها بما وضعته، لأنه هو الذي خلق هذا المولود وجعله أنثى، وهو العليم بما سيصير إليه أمر هذه الأنثى من فضل، إذ منها سيكون عيسى- عليه السّلام- وسيجعلها- سبحانه- آية ظاهرة دالة على كمال قدرته، ونفوذ إرادته.
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى: فهي كانتْ ترجو أنْ يكونَ مولودها ذكَرًا؛ لأنَّه أقدرُ على الخدمةِ وملازمةِ مكانِ العبادةِ من الأنثى.
وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ : ,المعنى: وإنى يا خالقي مع حبي لأن يكون المولود ذكرا لتتهيأ له خدمة بيتك فقد رضيت بما وهبت لي، وإنى قد سميت هذه الأنثى التي أعطيتنى إياها مريم. أي العابدة الخادمة لك، وإني أحصنها وأجيرها بكفالتك لها ولذريتها من الشيطان الرجيم الذي يزين للناس الشرور والمساوئ.
"فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"37.
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا : يخبر ربنا أنه تقبل مريم من أمها نذيرة – أي تقبل نذر امرأة عمران - ،بِقَبُولٍ حَسَنٍ: قبولا مباركا وخرق بها عادة قومها، فرضي أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته كالذكور، مع كونها أنثى وفاء بنذر الأم التقية.
وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا : أي: أنشأَها نشأةً حسنةً في بَدَنِها، وخِلْقتِها، ودِينها، وأخلاقِها .
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا :أي: جعَل اللهُ تعالى نَبيَّه زكريَّا عليه السَّلام كافلًا لها وضامنًا وضامنا لمصالحها. ؛ وذلك بعدَ أنْ وقَع الخلافُ فيمَن يَكفُل مريم بنت إمامهم ، فاقْتَرعوا، فكانتْ من نصيبِ زكريَّا عليه السَّلام؛ وزكريا هو أحد أنبياء بنى إسرائيل وينتهي نسبة إلى سليمان بن داود- عليهما السلام- وكان متزوجًا بخالة مريم، وقيل كان متزوجًا بأختها.وكانت كفالته لها نتيجة اقتراع بينه وبين من رغبوا في كفالتها من سدنة بيت المقدس، يدل على ذلك قوله- تعالى" ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ." آل عمران : 44.
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا:أي: كلَّما دخَلَ عليها زكريَّا عليه السَّلام مكانَ عِبادتها، وجَد عندها طعامًا تتغذَّى به، بلا كَسبٍ ولا تعبٍ؛ فهي منقطعةٌ للعبادة. قوله عزَّ وجلَّ: رِزْقًا جاء بالتنكير؛ لإفادةِ الشُّيوعِ والكثرة، وأنَّه ليس من جِنسٍ واحد، بل من أجناسٍ كثيرة.
قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ: لقد كانت إجابة مريم على زكريا تدل على قوة إيمانها، وصفاء نفسها ويقينها بقدرة الله.وهكذا قيض الله- تعالى- لمريم كل ألوان السعادة الحقيقية، فقد قبلها لخدمة بيته مع أنها أنثى، وأنشأها نشأة حسنة بعيدة عن كل نقص خِلقي أو خُلُقِي، وهيأ لها وسائل العيش الطيب من حيث لا تحتسب.
" هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ"38.
حينما رأى زكريَّا عليه السَّلام ما امتنَّ الله به على مريمَ من كرامات, طَمِع في فضْل الله, وتاقتْ نفسُه للولد, فدعا ربه قائلًا: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ، قوله لدنك فيه إشعار بأنه يريد من خالقه- عز وجل- أن يعطيه هذه الذرية بلا سبب عادي، ولكن بإرادته وقدرته سبحانه وتعالى .
هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ :ربِّ، أعطِني مِن عِندك، وهَبْ لي من فَضْلك، ذرِّيَّةً صالحةً طيِّبة؛ إنَّك سميعٌ لدُعائي, مجيبٌ له.
وفي تقييد الذرية بكونها طيبة، إشارة إلى أن زكريا لقوة إيمانه، ونقاء سريرته، وحسن صلته بربه، لا يريد ذرية فحسب وإنما يريد ذرية صالحة يرجى منها الخير في الدنيا والآخرة.
" فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ " 39.
حَصُورًا : أي: لا يَأتِي النساء؛ لعفَّتِه واجتهادِه في إزالةِ الشَّهوةِ، كأنَّه محصورٌ عنهنَّ، أي: محبوسٌ عنهنَّ، وأصلُ الحَصْر: الجَمْعُ والحبْسُ والمنعُ.
وبينما هو قائم في محرابه يتعبد لربه ويتضرع نادته الملائكة وبشرته باستجابة اللهُ لدُعائِه, فجاءتْه الملائكةُ تبشِّره بمولودٍ يُولد له اسمُه يَحيى, وله صفاتٌ عظيمةٌ, وخصالٌ جليلة؛ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ : أي: مصدِّقٌ بعيسى عليه السَّلام لأنه كان بكلمة الله , "يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ" آل عمران: 45. وقد كان يحيى معاصرًا لعيسى. وكانت بينهما قرابة قوية إذ أن والدة يحيى كانت أختًا لأمِّ مريم وقيل إن أم يحيى كانت أختًا لمريم..
وَسَيِّدًا: وسيِّدٌ على قومه، يسُودُهم بما أنعم الله به عليه من خِصالٍ حميدةٍ, وخُلقٍ فاضل, وعِلمٍ ودِين, وَحَصُورًا: وهو منقطعٌ للعبادة بكلِّيَّته، مبالغٌ في منْعِ نفْسِه عن التمتُّع بما أحلَّ الله، ممَّا تشتهيه النفوسُ عادةً، حتى الزَّواجِ بالنِّساء,وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ : ونبيٌّ من الصَّالح وفي هذا الوصف بشارة ثانية لزكريا بأن ابنه سيكون من الأنبياء الذي اصطفاهم الله لتبليغ دعوته إلى الناس، وهذه البشارة أسمى وأعلى من الأولى التي أخبره الله فيها بولادة يحيى، لأن النبوة منزلة لا تعدلها منزلة في الشرف والفضل.
"قَالَرَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" 40.
وهنا يتعجَّب زكريَّا عليه السَّلام من قُدرةِ اللهِ الكاملة, فيتساءَلُ عن كيفيَّةِ حُصولِ هذا مع كِبَر سنِّه، وكون امرأتِه عاقرًا لا تلِدُ؟! فيأتيه الجوابُ: إنَّ الله يفعلُ ما يشاء.
فإن قال قائل: وكيف قال زكريا وهو نبيّ الله " ربّ أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر "، وقد بشرته الملائكة بما بشرته به عن أمر الله إياها به؟ أشكّ في صدقهم؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصفَ به أهل الإيمان بالله! فكيف الأنبياء والمرسلون؟ أم كان ذلك منه استنكارًا لقدرة ربه؟ فذلك أعظم في البلية!
قال الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله : من فوائد هذه الآية الكريمة: أنه لا حرج على الإنسان في طلب ما تطمئن به نفسه، لأن زكريا عليه الصلاة والسلام ما شك في خبر الله، لكن أراد أن يتقدم إليه الفرح والاستبشار بقوة البراهين، لأن خبر الله لاشك أنه برهان لكن كلما ازدادت البراهين ازدادت قوة اليقين، فهنا سأل "أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ " يعني تعجبًا من قدرة الله عز وجل أن يكون له غلام وقد بلغه الكبر، لأن الغالب أن الإنسان إذا بلغ الكبر يقل إنجابه وربما عدم بالكلية،وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ : والعقر إلى النساء أقرب منه إلى الرجال، ولهذا تكون المرأة عاقرًا قبل أن يكون الرجل عاقرًا .
ومن فوائد الآية الكريمة: جواز وصف الإنسان بما يكره إذا كان المراد مجرد البيان لا القدح والعين، لقوله "وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ " لأنك لو وصفت المرأة بأنها عاقر لكرهت ، لكن إذا كان المراد بيان الأمر على وجهه دون العيب والقدح فإن هذا لا بأس به .ا.هـ.
"قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ"41.
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً : أي قال زكريا مناجيا ربه: يا رب إني أسألك أن تجعل لي آيَةً أي: علامة تدلني على حصول الحمل عند زوجتي: وقد سأل ذلك استعجالا للسرور قاله الحسن البصري، وقيل: ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها، ولا يؤخره حتى يظهر ظهورًا معتادًا. وقد أجابه- سبحانه- إلى طلبه فقال:
قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ:
أي قال الله- تعالى- لعبده زكريا: آيتك أي علامتك ألا تقدر على كلام الناس من غير آفة في لسانك لمدة ثلاثة أيام - قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا" مريم : 10.- إلا رَمْزًا أي إلا عن طريق الإيحاء والإشارة. مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله. فحبس لسانه عن الناس فقط ، فكان لا يستطيع أن يكلم أحدًا، وهو في ذات الوقت يسبح ويذكر الله .
"قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا" مريم : 10.وهذه آية عظيمة أن لا تقدر على الكلام، وفيه مناسبة عجيبة، وهي أنه كما يمنع نفوذ الأسباب مع وجودها- عدم قدرته على التكلم مع الناس مع أنه صحيح -، فإنه يوجدها بدون أسبابها- إنجابه مع كبر سنه ...- ليدل ذلك أن الأسباب كلها مندرجة في قضائه وقدره.
وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا: أمر سبحانه زكريا أن يكثر من ذكر الله تعالى .الذكر الحق ما تواطأ عليه القلب واللسان ابتغاء وجه الله، والذكر التام يشمل حركة اللسان، وحركة القلب، وحركة الجوارح.
وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ :
قيل التسبيح هو تنزيه الله ، وقيل الصلاة . قال الواحدي : أي: صَلِّ لله تعالى. والصلاة تُسَمَّى تسبيحًا ، لأن الصلاة يُوَحَّد فيها الله تعالى، وُينَزَّه، ويُوصف بكلِّ ما يُبَرِّئه من السوء "، انتهى من "التفسير البسيط"5/ 242. قال ابن عطية: "وقوله تعالى:وَسَبِّحْ: معناه: قل سبحان الله، وقال قوم معناه: صلِّ.انتهى من"المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز"1/432 .
والعشي ما بين زوال الشمس إلى غروب الشمس ومنه سميت صلاة الظهر والعصر صلاتي العشي ، والإبكار ما بين صلاة الفجر إلى الضحى .
وفي هذا الأمر الإلهي لزكريا حصن لكل عاقل على الإكثار من ذكر الله من تسبيحه وتمجيده لأن ذكر الله به تطمئن القلوب. وتسكن النفوس وتغسل الخطايا والذنوب ويكفي للدلالة على فضل الذكر أن الله- تعالى- أمر به حتى في حالة الحرب فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ." الأنفال : 45.
وَالذِّكْر عبادة أمر الله تعالى بالإكثار منها، والعلة في ذلك أن ذكر الله تعالى هو خير الأعمال؛ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"ألا أنبِّئُكُم بخيرِ أعمالِكُم ، وأزكاها عندَ مليكِكُم ، وأرفعِها في درجاتِكُم وخيرٌ لَكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والورِقِ ، وخيرٌ لَكُم من أن تلقَوا عدوَّكُم فتضرِبوا أعناقَهُم ويضربوا أعناقَكُم ؟ قالوا : بلَى . قالَ : ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى قالَ معاذُ بنُ جبلٍ : ما شَيءٌ أنجى مِن عذابِ اللَّهِ من ذِكْرِ اللَّهِ" الراوي : أبو الدرداء-المحدث :الألباني- المصدر :صحيح الترمذي-الصفحة أو الرقم: 3377- خلاصة حكم المحدث : صحيح.
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 08-21-2024, 07:02 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,050
Haedphone


من آية 42إلى آية 51
"وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ " 42.
وقوله- تعالى- وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ.. إلخ معطوف على قوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي.. إلخ ،عطف القصة على القصة، فإن الله- تعالى- بعد أن ذكر ما قالته امرأة عمران عند ما أحست بالحمل. وبعد ولادتها لمريم، وما كان من شأنها وتربيتها وكفالتها بعد أن ذكر ذلك، بيَّنَ- سبحانه ما كان من أمر مريم بعد أن بلغت رشدها واكتمل تكوينُها، وجاء بقصة زكريا بين قصة الأم وابنتها لما بينهما من مناسبة إذ أن دعاء زكريا ربه كان سببه ما رآه من إكرام الله- سبحانه- لمريم ولأن الكل لبيان اصطفاء آل عمران..
يَقصُّ الله تبارَك وتعالَى على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما كان من شأنِ مريم عليها السَّلام؛ إذ نادتْها الملائكةُ فقالت لها: يا مريمُ, إنَّ الله اجتباكِ واختاركِ وطهَّركِ في الخُلق والدِّين, وفضَّلكِ على نِساء العالَمين.الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة والأفعال السديدة، والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين، إما على عالمي زمانها، أو مطلقا، وإن شاركها أفراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة، لم يناف الاصطفاء المذكور.
" يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ" 47 .
فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها، كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها، فلهذا قالت لها الملائكة: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ......:
القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع . أي: قالت الملائكة أيضًا لمريم: يا مريم أخلصي العبادة لله وحده وداومي عليها، وكوني مع الخاشعين العابدين المصلِّين وخص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله.
فإن ملازمة الطاعات والصلوات من شأنها أن تحفظ النعم وأن تزيد الإنسان قربًا وحبًا من خالقه- عز وجل-.
"ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ" 44.
اسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى ما تقدم الحديث عنه من قصة امرأة عمران وقصة زكريا وغير ذلك من الأخبار البديعة.
أَنبَاءِ: جمع نبأ، وهو الخبر العظيم الشأن.
الْغَيْبِ: مصدر غاب، وهو الأمر المغيب المستور الذي لا يعلم إلا من قبل الله- تعالى-.
نُوحِيهِ: من الإيحاء وهو إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء وبمعنى الإلهام.
أي: ذلك القصص الحكيم الذي قصصناه عليك يا محمد، فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران وما قاله زكريا، وما قالته الملائكة لمريم وفيما يتعلق بغير ذلك من شئون ذلك القصص الحكيم هو من أنباء الغيب التي لا يعلمها أحد سوى الله- عز وجل- وقد أخبرناك بها لتكون دليلا على صدقك فيما تبلغه عن ربك ولتكون عبرة وذكرى لقوم يعقلون.
وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ : أي: وما كنتَ- يا محمَّدُ- معاصرا لزكريَّا وقومِه حينذهبت امرأة عمران بمريم إلى من لهم الأمر على بيت المقدس، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم، واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم. فلولا أنَّ الله أَوحى إليك ذلك لَمَا كان لك علمٌ به.
"إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ" 45.
يخبر تعالى أن الملائكة بشرت مريم عليها السلام بأعظم بشارة، وهو كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم، سمي كلمة الله لأنه كان بالكلمة من الله، فإن عيسى- عليه السّلام- لم يكن كباقي البشر من ذكر وأنثى، بل خلقه الله- تعالى- خلقًا آخر، خلقه بِكَلِمَةٍ مِنْهُ وهي "كن" فكان كما أراده الله لأن حالته خارجة عن الأسباب، وجعله الله من آياته وعجائب مخلوقاته، فأرسل الله جبريل عليه السلام إلى مريم.
والمسيح: لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق، وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك. وقد حكى الله- تعالى- أن عيسى قال عن نفسه" إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا"مريم : 30 / 31.
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ:يقال وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس. واشتقاقه من الوجه لأنه أشرف الأعضاء ولأنه هو الذي يواجه الإنسان به غيره. وعيسى عليه السّلام، شهد الله تعالى له، - وكفى بالله شهيدًا- شهد له بالوجاهة وسمو المنزلة في الدنيا والآخرة لما له من آثار عظيمة في هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ودعوتهم إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق، وإقامة التوراة بعد أن اختلفوا فيها.
فله الوجاهة العظيمة في الدنيا، جعله الله أحد أولي العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار والأتباع، ونشر الله له من الذكر ما ملأ ما بين المشرق والمغرب.
وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ: وهذه القربى تنال بتحقيق أسبابها من الاجتهاد بالتقرب إلى الله تعالى بعبادته في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل. إن المقربين لهم أعلى المنازل في الجنة، وعلى رأس المقربين الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، ومن صفات المقربين الاستقامة على دين الله تعالى والتقرب إليه بالفرائض والنوافل والبعد عما نهى الله عز وجل عنه.اللهم اجعلنا وإياكم من المقربين في عافية دنيا وأخرى.
وشهد الله لعيسى عليه السلام أنه من المقربين عزَّ وجلَّ في الدُّنيا والآخِرة - ويا لها من صفة عظيمة هي منتهى ما تتطلع إليه النفوس وتهفو القلوب.
"وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ " 46.
والمراد أن عيسى- عليه السّلام- يكلم الناس في حال كونه صغيرا قبل أوان الكلام وهو ما زال في المهد ؛والمهد هو مَضْجَعُ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ، وهو ما يُهيَّأ للصَّبي، وأصلُه: التَّوطئةُ للشَّيء وتسهيلُه، كما يكلمهم في حال كهولته واكتمال شبابه - والكهل: هو الشخص الذي اجتمعت قوته وكمل شبابه. وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوى وتم.، فهو- عليه السّلام- يكلمهم بكلام الأنبياء من غير تفاوت بين حالتي الطفولة والكهولة، وذلك إحدى معجزاته- عليه السّلام- وقد حكى القرآن في سورة مريم ما تكلم به عيسى- عليه السّلام- وهو طفل صغير فقال- تعالى" فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا."ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ" مريم : 34:31.
وَمِنَ الصَّالِحِينَ:أي عباد الله الصالحين لحمل رسالته وتبليغها للناس. أو من الذين يصلحون ولا يفسدون ويطيعون الله- تعالى- ولا يعصونه، قالوا: ولا رتبة أعظم من كون المرء صالحًا لأنه لا يكون كذلك إلا إذا كان في جميع الأفعال والتروك مواظبًا على المنهج الأصلح، وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا، في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح، فلما عدد- سبحانه- صفات عيسى أردفها بهذا الوصف - وَمِنَ الصَّالِحِينَ- الدال على أرفع الدرجات .تلك هي البشارات التي بَشرت بها الملائكةُ مريم، وتلك هي بعض صفات مولودها فماذا كان موقفها من ذلك؟لقد حكى القرآن أن موقفها كان يدل على بالغ عجبها، وشدة تأثرها فقال- تعالى:
" قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ " 47.
وصدرت إجابتها بنداء الله- تعالى- للإشعار بكمال تسليمها للقدرة الإلهية وأن استغرابها وتعجبها إنما هو من الكيفية لا إنكارًا لقدرة الله- تعالى- وجملة وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ حالية محققة لما مر ومقوية له.والمسيس يحتمل أن يكون كناية عن المباشرة التي تقع بين الرجل والمرأة والتي يترتب عليها وجود النسل إذا شاء الله ذلك، ويحتمل أن يكون المراد به حقيقته وهو أنها لم يلمسها رجل، لأنها كانت معتكفة في بيت الله ومنصرفة لعبادته، ولم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط.وبذلك ينتفي بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس، فموضع عجبها واستنكارها إنما هو وجود ولد منها مع أنها لم يمسسها بشر.
قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ: وقضى هنا بمعنى أراد- أي قال الله- تعالى- لها بلا واسطة أو بواسطة ملائكة ، فأخبرها أن هذا أمر خارق للعادة، خلقه من يقول لكل أمر أراده: كن فيكون، فمن تيقن ذلك زال عنه الاستغراب والتعجب، ومن حكمة الباري تعالى أن تدرج بأخبار العباد من الغريب إلى ما هو أغرب منه، فذكر وجود يحيى بن زكريا بين أبوين أحدهما كبير والآخر عاقر، ثم ذكر أغرب من ذلك وأعجب، وهو وجود عيسى عليه السلام من أم بلا أب ليدل عباده أنه الفعال لما يريد وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، ويصنَعُ ما يُريد، فلا يُعجِزه شيءٌ.
كما قال تعالى" إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ "النحل: 40.
"وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ"48.
قوله- تعالى-: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ معطوف على يُبَشِّرُكِ . والمراد بالكتاب الكتابة والخط، لأن الكتابة من أعظم نعم الله على عباده ولهذا امتن تعالى على عباده بتعليمهم بالقلم في أول سورة أنزلها فقال " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" العلق:1.. فإن عيسى- عليه السّلام- قد بعثه الله- تعالى- في أمة ارتقت فيها ألوان العلم والمعرفة فأكرمه الله بأن جعله يفوق غيره في هذه النواحي. وقيل المراد بالكتاب جنس الكتب الإلهية.
والمراد بالحكمة معرفة أسرار الشرع، ووضع الأشياء مواضعها، فيكون ذلك امتنانًا على عيسى عليه السلام بتعليمه الكتابة والعلم والحكمة، وهذا هو الكمال للإنسان في نفسه.
قال الفخر الرازي "والأقرب عندي أن يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة. ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومجموعهما هو المسمى بالحكمة، ثم بعد أن صار علمًا بالخط والكتابة ومحيطًا بالعلوم العقلية والشرعية يعلمه التوراة – التي نزلت على موسى عليه السلام. وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة، لأن التوراة كتاب إلهي فيه أسرار عظيمة والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث عن أسرار الكتب الإلهية. ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل – الذي نزل على عيسى عليه السلام. وإنما أخر ذكر الإنجيل عن التوراة لأن من تعلم الخط، ثم تعلم علوم الحق، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي نزل على مَن قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله عليه بعد ذلك كتابًا آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى والمرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية" ا.هـ .
"وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" 49.
ثم ذكر له كمالا آخر وفضلا زائدا على ما أعطاه الله من الفضائل فأرسله الله إلى هذا الشعب يدعوهم إلى الله، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ولكي يبشرهم برسول يأتي من بعده هو خاتم الأنبياء والمرسلين، ألا وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم. وأقام له من الآيات ما دلهم أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا ولهذا قال"أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ " ثم ذكر- سبحانه- خمسة أنواع من معجزات عيسى- عليه السّلام- دالة على صدقه، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ: والمعنى أن عيسى- عليه السّلام- قد حكى الله- عنه أنه قال لبني إسرائيل: لقد أرسلني الله إليكم لأبلغكم دعوته، ولآمركم بإخلاص العبادة له، وقد أعطاني- سبحانه- من المعجزات ما يقنعكم بصدقي فيما أبلغه عن ربي، ومن بين هذه المعجزات أني أقدر على أن أصور لكم من الطين شيئًا صورته مثل صورة الطير، فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فيكون طيرًا حقيقيًا ذا حياة بإذن الله أي بأمره وإرادته.
فالجملة الكريمة قد اشتملت على ثلاثة أعمال: ثنتان منهما لعيسى وهما تصوير الطين كهيئة الطير ثم النفخ فيه. أما الثالث فهو من صنع الله- تعالى- وحده ألا وهو خلق الحياة في هذه الصورة التي صورها عيسى ونفخ فيها. وهذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس في عيسى ألوهية ولا أي معنى من معانيها. ولذا حكى الله- تعالى- عنه أنه قال: بِإِذْنِ اللَّهِ.
وأما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات فقد حكاه القرآن في قوله- تعالى"وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ "وَأُبْرِئُ أي أشفي
الْأَكْمَهَ: هو الذي يولد أعمى.
وَالْأَبْرَصَ: هو الذي يكون في جلده بياض مشوب بحمرة وهو مرض من الأمراض الجلدية المنفرة التي عجز الأطباء عن علاجها .
والمعنى: أن عيسى- عليه السّلام- قال لقومه: والمعجزات التي تدل على صدقي أن أشفي وأعيد الإبصار إلى من وُلد أعمى، وأعيد الشفاء إلى من أصيب بمرض البَرَص، وأعيد الحياة إلى من مات. ولا أفعل كل ذلك بقدرتي وعلمي وإنما أفعله بإذن الله وبإرادته وأمره.
وخص إبراء الأكمه والأبرص بالذكر لأنهما مرضان عضالان لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منهما فإذا أجرى الله- تعالى- على يد عيسى الشفاء منهما كان ذلك دليلا على أن من وراء الأسباب والمسببات خالقا مختارا لا يعجزه شيء وعلى أن الأسباب ليست مؤثرة بذاتها في الإيجاد أو الإعدام وإنما المؤثر هو الله- تعالى- وقوله وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ فيه تدرج من الصعب إلى الأصعب، لأن مما لا شك فيه أن إحياء الموتى خارق عظيم، يدل دلالة قاطعة على أن الأسباب العادية ليست هي المؤثرة بإرادة خالق الكون وقدرته سبحانه.
وقيد ما يقوم به من إبراء وإحياء بأنه بإذن الله: للتنبيه على أن ما يفعله من خوارق إنما هو بأمر الله وتيسيره وإرادته.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيات وأذعنتم للحق الذي جئتكم به من عند الله.
وأي: آية أعظم من جعل الجماد حيوانا، وإبراء ذوي العاهات التي لا قدرة للأطباء في معالجتها، وإحياء الموتى، والإخبار بالأمور الغيبية، فكل واحدة من هذه الأمور آية عظيمة بمفردها، فكيف بها إذا اجتمعت وصدَّق بعضها بعضها؟ فإنها موجبة للإيقان وداعية للإيمان.
"وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ " 50 .
والمعنى: أن عيسى- عليه السّلام- قال لبني إسرائيل: إن الله- تعالى- قد أرسلنى إليكم لهدايتكم وقد جئتكم بالمعجزات التي تثبت صدقي. وجئتكم مصدقًا - أي مُقِر ومؤمن ومثبت - لما بين يدي - أي لما تقدم قبلي: - من التوراة.
وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ : أي أن شريعة عيسى عليه السلام جاءت متممة لشريعة موسى عليه السلام وناسخة لبعض أحكامها، فلقد حرم الله- تعالى- على بني إسرائيل بعض الطيبات بسبب ظلمهم وبغيهم كما جاء في قوله- تعالى "فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا" النساء : 160. فجاءت شريعة عيسى- عليه السلام- لتحل لهم بعض ما حرمه الله عليهم بسبب ظلمهم وفجورهم.
وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ : تحريض لهم على الاستجابة لما يدعوهم إليه. جئتكم بهذه الآيات التي تدل على صدقي ووجوب اتباعي، وهي ما تقدم من الآيات، والمقصود من ذلك كله قوله "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ".اتقوا الله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وأطيعوني فإن طاعة الرسول طاعة لله.
"إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ " 51.
ثم حكى القرآن أن عيسى- عليه السلام- قد قرر أن هذه المعجزات الباهرة لن تخرجه عن أن يكون عبدًا لله مخلوقًا له، وأن من الواجب على الناس أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئًا.فقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ: أي قال عيسى- عليه السلام- داعيًا قومه إلى عبادة الله- تعالى- هو الذي خلقني وخلقكم وهو الذي رباني ورباكم، فأخلصوا له العبادة فإن عبادته- سبحانه- وطاعته هي الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التباس.
والآن ينساق الذهن إلى سؤال هو: ماذا كان موقف بني إسرائيل منه بعد أن جاءهم بما جاءهم به من بينات وهدايات؟
هذا ما سنتابعه في الآيات التالية إن شاء الله
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 09-03-2024, 03:05 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,050
y

تفسير سورة آل عمران
من آية 52 إلى آية 63

" فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"52.
أَحَسَّ : عَلِم ووجَد، أو رأى وسمِع، والتعبير بأحس يشعر بأنه علم منهم الكفر علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس ؛ وعبَّر بذلك لأنَّه قد ظهَر منهم الكفرُ ظهورًا بان للحِسِّ، فضلًا عن الفَهم. الفاء في قوله فَلَمَّا تؤذن بالتعقيب على الآيات الباهرة .
الْحَوَارِيُّونَ: جمْع حوارِيٍّ، وهمْ أصفياءُ عِيسى عليه السَّلام وشِيعتُه وناصِرُوه، وخُلاصةُ أصحابِه، وشاعَ استعماله في الَّذين خَلَصوا وَأَخْلصُوا فِي التَّصْدِيق بالأنبياءِ ونُصرتِهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَن يَأْتِينِي بخَبَرِ القَوْمِ؟ -يَومَ الأحْزَابِ- قَالَ الزُّبَيْرُ: أنَا، ثُمَّ قَالَ: مَن يَأْتِينِي بخَبَرِ القَوْمِ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أنَا، فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ.؟
صحيح البخاري.
عِندَ تَكرُّرِ استِجابةِ الزُّبَيرِ رَضيَ اللهُ عنه قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" إنَّ لِكُلِّ نَبيٍّ حَوَارِيًّا، وحَوَارِيَّ الزُّبَيرُ"، والحَواريُّ: هو النَّاصِرُ.
والمعنى: أن عيسى عليه السلام- لما أحس الكفر من بني إسرائيل استنصرَ وقال لهم من أنصاري إلى الله؟ فأجابه الحواريون الذين آمنوا به وصدقوه وباعوا نفوسهم الله- تعالى؛ نحن أنصار الله.
فهم لقوة إيمانهم وصفاء نفوسهم قد لبوا دعوة عيسى- عليه السلام- في طلب النصرة دون أن يخشوا أحدًا إلا الله.وقولهم- كما حكى القرآن عنهم نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ إشعار بأنهم ما وقفوا بجانب عيسى إلا نصرة لدين الله ودفاعًا عنِ الحقِّ الذي أنزله سبحانه على رسوله عيسى عليه السلام .
وقولهم آمَنَّا بِاللَّهِ جملة في معنى العِلة للنصرة - توحيد الله - أي نحن أنصار الله يا عيسى لأننا آمنا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأنه هو الخالق لكل شيء والقادر على كل شيء.
وقولهم وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ معطوف على آمنا والشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة فهم يطلبون من عيسى- عليه السلام- أن يكون شاهدًا لهم يوم القيامة بأنهم أسلموا وجوههم الله وأخلصوا له العبادة حين تشهد الرسل لأقوامهم وعليهم.قال تعالى "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"النحل 89.
قوله تعالى : وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ:هم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة. تفسير القرطبي.كل رسول يشهد على أمته لأنه أعظم اطلاعًا من غيره على أعمال أمته، وأعدل وأشفق من أن يشهد عليهم إلا بما يستحقون.تفسير السعدي.

"رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. "
53".
بعد أن أعْلنوا إيمانهم, وأَشهَدوا عيسى عليه السَّلام على إسلامِهم، دعَوْا ربَّهم متوسِّلين بإيمانهم بما أنزل، واتِّباعهم لعيسى عليه السَّلام، أنْ يَكتُبَهم مع مَن شهِد له بالوحدانية, ولرُسلِه بالصِّدق, واتَّبَعوا أوامرَه, واجتنَبوا نواهيَه، المستحقين لرضاه ورحمته.
فهم قد صدروا ضراعتهم إلى الله- تعالى- بالاعتراف الكامل بربوبيته ثم أعلنوا إيمانهم به وبما أنزل على أنبيائه، ثم أقروا باتباعهم لرسوله والأخذ بسنته، ثم التمسوا منه- سبحانه- بعد ذلك أن يجعلهم من عباده الذين رضي عنهم وأرضاهم.

"وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
54".
ثمَّ يُخبر تبارَك وتعالَى عن مَكرِ مَن كَفَر بعيسى عليه السَّلام مِن بني إسرائيل .
والمكر: من صفات الله الفعليه الخبرية التي لا يوصف بها وصفًا مطلقًا، فإن مكر الله على من يمكر به . قال العلامة العثيمين في المجموع الثمين:لا يوصف الله تعالى بالمكر إلا مقيدًا، فلا يوصف الله تعالى به وصفا مطلقًا، والمكر التوصل إلى إيقاع الخصم من حيث لا يشعر، فإن قيل: كيف يوصف الله تعالى بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم؟ قيل: إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر وأنه غالب على خصمه، ولذلك لا يوصف الله تعالى به على الإطلاق، فلا يجوز أن تقول: إن الله ماكر. اهـ.
قال الطيبي: المكر الخداع، وهو من الله إيقاع بلائه بأعدائه من حيث لا يشعرون.ا.هـ
المكر لغة واصطلاحًا : التدبير المُحكم. أو صرف غيرك عما يريده بحيلة. وهو مذموم إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح كما فعل اليهود مع عيسى- عليه السلام- ومحمود إن تحرى به الفاعل الخير والجميل.
- أحَدُهما مذمومٌ: وهو الأشهَرُ عِندَ النَّاسِ والأكثَرُ، وذلك أن يَقصِدَ فاعِلُه إنزالَ مَكروهٍ بالمخدوعِ، وهو الذي قصَدَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقولِه "من غشَّنا فليس منَّا ، و المكرُ والخِداعُ في النَّارِ
"الراوي : عبدالله بن مسعود - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم : 6408 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
والمعنى: أنَّهما يؤدِّيان بقاصِدِهما إلى النَّارِ.
- والثَّاني محمود:على عَكسِ ذلك، وهو أن يقصِدَ فاعِلُه إلى استجرارِ المخدوعِ والممكورِ به إلى مَصلحةٍ لهما، كما يُفعَلُ بالصَّبيِّ إذا امتَنَع من تعَلُّمِ خيرٍ
والمعنى: أن أولئك اليهود الذين أحس عيسى منهم الكفر دبروا له القتل غيلة واتخذوا كل الوسائل لتنفيذ مآربهم الذميمة. فأحبط الله- تعالى- مكرَهم، وأبطل تدبيرَهم بأن نجى نبيه عيسى- عليه السلام- من شرورهم وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أقواهم مكرًا وأنفذهم كيدًا، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المُعَاقَب.
وقال ابنُ القَيِّمِ"المَكْرُ ينقَسِمُ إلى محمودٍ ومذمومٍ؛ فإنَّ حقيقتَه إظهارُ أمرٍ وإخفاءُ خلافِه؛ ليتوصَّلَ به إلى مرادِه. فمِن المحمودِ: مَكرُه تعالى بأهلِ المَكْرِ؛ مقابلةً لهم بفِعلِهم، وجزاءً لهم بجِنسِ عَمَلِهم.انتهى.
والصفات ثلاثة أنواع :
الأول : صفات كمال ، لا نقص فيه بوجه من الوجوه. فهذه يوصف الله تعالى بها وصفًا مطلقًا ولا يقيد بشيء ، مثال ذلك : العلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والرحمة . . . إلخ .
الثاني : صفات نقص ، لا كمال فيها ، فهذه لا يوصف الله تعالى بها أبدًا ، كالنوم ، والعجز ، والظلم ، والخيانة . . إلخ .
الثالث : صفات يمكن أن تكون كمالًا ، ويمكن أن تكون نقصًا ، على حسب الحال التي تُذكر فيها .
فهذه لا يوصف الله تعالى بها على سبيل الإطلاق ، ولا تُنفى عنِ اللهِ تعالى على سبيل الإطلاق ، بل يجب التفصيل ، ففي الحال التي تكون كمالًا يوصف الله تعالى بها ، وفي الحال التي تكون نقصًا لا يوصف الله تعالى بها. ومثال هذا : المكر ، والخديعة ، والاستهزاء .
ولذلك لم يرد وصف الله تعالى بهذه الصفات على سبيل الإطلاق ، وإنما ورد مقيداً بما يجعله كمالاً .
قال الله تعالى "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
" النساء /142. فهذا خداع بالمنافقين .

" إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ"
55".

ثم حكى- سبحانه- بعض مظاهر قدرته، ورعايته لعبده عيسى- عليه السلام- وخذلانه لأعدائه فقال- تعالى. إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ:قول جمهور العلماء: أي: واذكُرْ إذ قال اللهُ لعيسى عليه السَّلام: يا عيسى إني آخذك وافيًا بروحك وجسدك من الأرض ورافعك إلى السماء بجسدك وروحك لتستوفي حظك من الحياة هناك. فرفع الله عبده ورسوله عيسى إليه، وألقي شبهه على غيره، فأخذوا من ألقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه، وباءوا بالإثم العظيم بنيتهم أنه رسول الله، قال الله "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ" النساء :
157.
وفي هذه الآية دليل على علو الله تعالى واستوائه على عرشه حقيقة.
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا: أي: مخلِّصُك ممَّن كفرَ بك، ومُخرِجك من بينهم، برفعي إيَّاك إلى السَّماء.
كما قال تعالى: " وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ"
مائدة: 110.
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ : وهم المسلمون الذين آمنوا بك وصدقوك، وصدقوا بكل نبي بعثه الله- تعالى- بدون تفرقة بين أنبيائه ورسله
فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: أي: وجاعلٌ أتباعَك يا عيسى فوق الَّذين كفروا، بالحُجَّةِ والبُرهان، وبالعزَّة والغَلَبة.
والمراد بالفوقية ما يتناول الناحيتين الروحية والمادية، أي هم فوقهم بقوة إيمانهم، وحسن إدراكهم، وسلامة عقولهم، وهم فوقهم كذلك بشجاعتهم وحسن أخذهم للأسباب التي شرعها الله- تعالى- كوسائل للنصر والفوز ولذا قال صاحب الكشاف قوله: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ومتبعوه هم المسلمون لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع، دون الذين كذبوه.
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ: أي: ثمَّ يومَ القيامة إليَّ مصيرُكم- أيُّها المختلِفون في عيسى عليه السَّلام جميعًا- فأَقضِي بينكم فيما كُنتُم تَختلفونَ فيه مِن أمْرِه عليه السَّلام.
والعبرة ليست بخصوص السبب ولكن بعموم الحكم ، فجميع الخلائق مصيرها ومرجعها إلى الله ثم إلى الله فيحكم بينهم فيما اختلفوا فيه في الدنيا من شئون دينية أو دنيوية. قال تعالى "إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ "25" ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم "
26.الغاشية.
ثم فصل سبحانه- هذا الحكم الذي سيحكم به على عباده يوم القيامة فقال:
"فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ"
56.
ثم أخبر عن حكمه بينهم بالقسط والعدل ،فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا: أي: بالله وآياته ورسله.فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ:أي فأعذبهم عذابًا شديدًا في الدنيا بإيقاع العداوة والبغضاء والحروب بينهم، وبما يشبه ذلك من هزائم وأمراض وشقاء نفس لا يعلم مقدار ألَمِهِ إلا الله- تعالى- وأما في الآخرة فيساقون إلى عذاب النار وبئس القرار. فعذاب الآخرة هو الطامة الكبرى والمصيبة العظمى، ألا وهو عذاب النار وغضب الجبار وحرمانهم ثواب الأبرار؛اللهم ثبت قلوبنا على دينك.
وقد أكد- سبحانه- شدة هذا العذاب بعدة تأكيدات منها نسبة العذاب إليه- سبحانه- فَأُعَذِّبُهُمْ- وهو القوي القهار الغالب على كل شيء، ومنها التأكيد بالمصدر -عَذَابًا- ، ومنها الوصف بالشدة - شَدِيدًا-، ومنها الإخبار بأنه لا ناصر لهم ينصرهم من هذا العذاب الشديد في قوله- تعالى- وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ:أي: وليس لهم أحدٌ يَدفَعُ عنهم العذابَ، ولا يمنَعُ عنهم أليمَ العِقاب .هذا هو جزاء الكافرين وأما جزاء المؤمنين ففي قوله تعالى في الآية التالية:
" وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"
57".
أي: وأمَّا الَّذين آمنوا وعمِلوا الصَّالحات،الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وغير ذلك مما أمر الله بالإيمان وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ القلبية والقولية والبدنية التي جاءت بشرعها المرسلون، وقصدوا بها رضا رب العالمين .
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ : فيُتمُّ لهم جزاءَهم من الثَّواب دون نَقصٍ أو بَخْسٍ في الدُّنيا والآخرة، دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب لأعمالهم من الإكرام والإعزاز والنصر والحياة الطيبة، وإنما توفية الأجور يوم القيامة، يجدون ما قدموه من الخيرات محضرًا موفرًا، فيعطي كل عامل أجر عمله ويزيدهم من فضله وكرمه .فيظفرون بالجنَّةِ والنَّعيمِ المقيم برحمته.
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ: وفي هذا وعيد منه سبحانه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله.قال تعالى "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ "
لقمان 13.
عَنْ عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، قالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ"الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ"الأنعام:
82، شَقَّ ذلكَ علَى أصْحابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقالوا: أيُّنا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟!فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ليسَ كما تَظُنُّونَ؛ إنَّما هو كما قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ"يَا بُنَيَّ لَاتُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"لقمان: 13.الراوي : عبدالله بن مسعود - صحيح البخاري.
"ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ"
58".
ذَلِكَ :اسم إشارة وهو مشار به إلى المذكور من قصة آل عمران وقصة مريم وأمها، وقصة زكريا وندائه لربه، وقصة عيسى وما أجراه الله- تعالى- على يديه من معجزات وما خصه به من كرامات.
أي ذلك القصص الحكيم الذي قصصناه عليك يا محمد نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي نقصه عليك متتابعًا بعضه تلو بعض من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه.
مِنَ الْآيَاتِ: المعنى يحتمل أن يكون المراد منه أن ذلك من آيات القرآن ، ويحتمل أن يكون المراد منه أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك.
وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ: أي والقرآن المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ومعنى المحكم في القرآن أنه أحكم عن تطرق وجوه الخلل إليه قال تعالى" الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
" هود:1..
وقيل المراد بالذكر الحكيم اللوح المحفوظ الذي نقلت منه جميع الكتب المنزلة على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-
"إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ"
59".
والتشبيه واقع على أن عيسى خُلق من غير أب كآدم ، لا على أنه خلق من تراب.
والمعنى: إن شأن عيسى وحاله الغريبة عِنْدَ اللَّهِ أي في تقديره وحكمه سبحانه كَمَثَلِ آدَمَ أي كصفته وحاله العجيبة في أن كليهما قد خلقه الله- تعالى- من غير أب، ويزيد آدم على عيسى أنه خلق بدون أم أيضًا، خلَقه من ترابٍ بلا أبٍ ولا أمٍّ، ثمَّ قال له: كُنْ، فكان, فخَلْقُ عيسى بلا أبٍ ليس بأعجبَ مِن خَلْق آدمَ عليهما السلام.
"الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ"
60".
والامتراء هو الشك الذي يدفع الإنسان إلى المجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق.
والمعنى: هذا الذي أخبرناك عنه يا محمد من شأن عيسى ومن شأن غيره هو الحق الثابت اليقيني الذي لا مجال للشك فيه، فاثبت على ما أنت عليه من حق،ولا تكونن من الشاكين في أي شيء مما أخبرناك به.
الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ:إضافة الحق إلى الله -تبارك وتعالى، هذا غاية ما يمكن أن يكون دليلاً على صحته، فلا يتطرق إليه شك بوجه من الوجوه؛ لأنه من الله الذي أحاط بكل شيء علمًا.
رَّبِّكَ :وإضافة الرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذه لا شك أنها ربوبية خاصة، فهذه فيها تشريف لمقام النبي صلى الله عليه وسلم.

لذا كان النهي عن الامتراء والشك في ذلك الحق فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ ، يعني: من الشاكين، لأن من شأن الأمور الثابتة أن يتقبلها العقلاء بإذعان وتسليم وبدون جدل أو امتراء.
قال الآلوسى: وقوله فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خطاب له صلّى الله عليه وسلّم ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه صلّى الله عليه وسلّم.ا.هـ.
وحاشا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم من الشاكين، لكن هذا فيه إلهاب، من أجل الامتثال والحرص والتمسك بما جاء عن الله.من جهة، ومن جهة أخرى، فإن ذلك أيضًا متوجه إلى أتباعه، فالأمة تُخاطب في شخصية قائدها وقدوتها ومقدمها -عليه الصلاة السلام-، فلا يجوز لأحد أن يقع عنده شيء من الشك في هذه الأمور التي بيّنها الله .غاية البيان؛فإذا قامت الحجة، واتضحت المحجة، واستبان السبيل، فليس لأحد عُذر بعد ذلك إذا وقع في شيء من الانحراف أو الشك، فإن ذلك يرجع إلى فساد القصد، وغلبة الهوى، فمزاولات الإنسان هي التي قد توقعه في شيء من الامتراء والانحراف . أيضًا تعريض لهؤلاء الممترين الذين وقعوا في لبس وعماية.
وفي هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة هامة وهي أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها، فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل، وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة، سواء قدر العبد على حلها أم لا، فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه، لأن ما خالف الحق فهو باطل، قال تعالى "فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ"
يونس: 32.وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون.
"فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ""
61.
وقوله حَاجَّكَ من المحاجة وهي تبادل الحجة والمجادلة بين شخص وآخر.
والفاء في قولهفَمَنْ حَاجَّكَ للتفريع على قوله- تعالى- الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.
فمن جادلك في شأن عيسى عليه السّلام وزعم أنه فوق منزلة العبودية من بعد الذي أنزلناه إليك من هذه الدلائل الواضحة وهذا البيان وما قصصناه عليك في أمره، ومن بعد ما جاءك من العلم في شأن عيسى عليه السلام ، ولم يعد لمُبطل مقال، فلا تبادله المجادلة، فإنه معاند لا يقنعه الدليل مهما كان واضحًا، ولكن ادعوهم إلى الملاعنة فقل له ولأمثاله من الظالمين:فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ: فيُدعى بدعاء أن يُهلك الله، ويلعن المُبطِل من الطائفتين ويخرجه من رحمته سبحانه . وفي تقديم هؤلاء- أي تقديم الأبناء والنساء على النفس في المباهلة، مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم - إيذان بكمال أمنه صلى الله عليه وسلموتمام ثقتهبأمره وقوة يقينه، بأنه لن يصيبهم في ذلك مكروه وهذه الآية تسمى آية المباهلة.
وقد ورد من طرق عدة أن النبي صلى الله عليه وسلمدعا نصارى نجران للإسلام ، ولما لم يسلموا طلب النبي صلى الله عليه وسلم مباهلتهم فرفضوا وامتنعوا وخافوا فدفعوا الجزية،فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على الجزية. أبو عبيدة توجه معهم فقبض مال الصلح ورجع.
"جاءَ العاقِبُ والسَّيِّدُ صاحِبا نَجْرانَ إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يُرِيدانِ أنْ يُلاعِناهُ، قالَ: فقالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: لا تَفْعَلْ؛ فَواللَّهِ لَئِنْ كانَ نَبِيًّا فَلاعَنَّا، لا نُفْلِحُ نَحْنُ ولا عَقِبُنا مِن بَعْدِنا، قالا: إنَّا نُعْطِيكَ ما سَأَلْتَنا، وابْعَثْ معنا رَجُلًا أمِينًا، ولا تَبْعَثْ معنا إلَّا أمِينًا، فقالَ: لَأَبْعَثَنَّ معكُمْ رَجُلًا أمِينًا حَقَّ أمِينٍ، فاسْتَشْرَفَ له أصْحابُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: قُمْ يا أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ، فَلَمَّا قامَ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا أمِينُ هذِه الأُمَّةِ."
الراوي : حذيفة بن اليمان/ صحيح البخاري.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي حُذَيْفةُ بنُ اليَمانِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه جاء العاقِبُ، قيلَ: اسمُه عبدُ المَسيحِ، والسَّيِّدُ، واسمُه الأيْهَمُ، أو شُرَحْبيلُ، صاحِبَا نَجْرانَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهما مِن أكابِرِ نَصارى نَجْرانَ وحُكَّامِهم، وكان السَّيِّدُ رَئيسَهم وصاحِبَ رِحالِهم ومُجتَمَعِهم، والعاقبُ صاحبُ مَشورَتِهم، وكان معَهم أيضًا أبو الحارِثِ بنُ عَلْقَمةَ، وكان أُسْقُفَّهم، وحَبْرَهم، وصاحِبَ مِدْراسِهم، وكان مَقدَمُهم إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَنةَ تِسعٍ مِنَ الهِجْرةِ في وَفدٍ من أهلِ نَجْرانَ، ونَجْرانُ مَدينةٌ بيْنَ مكَّةَ واليمَنِ. وقدْ جاءا يُريدانِ مُلاعَنةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُلاعَنةُ هي المُباهَلةُ، وهي أنْ يَدْعوَ كلُّ واحدٍ مِن المُتَلاعِنَيْنِ على نفْسِه بالعَذابِ على الكاذِبِ والمُبطِلِ، فخافَ أحَدُهما وقال لصاحِبِه: لا تَفعَلْ؛ فواللهِ لَئنْ كان نَبيًّا، فلاعَنَنا لا نُفلِحُ نحْن ولا ذُرِّيَّتُنا مِن بَعدِنا، فامْتَنَعا عنِ المُلاعَنةِ، وتَصالَحا معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على مالٍ يَدفَعونَه له، فقالا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّا نُعْطيكَ ما سأَلْتَنا، وابعَثْ معَنا رَجلًا أمينًا، ولا تَبعَثْ معَنا إلَّا أمينًاليقبض منهم المال الذي صالحوا النبي عليه ، وهذا تَشْديدٌ وتَأكيدٌ على أمانَتِه، فأجابَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى طلَبِهم، وقال لهمْ"لَأَبعَثَنَّ معَكم رَجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ"، وهذا تَأكيدٌ على أمانةِ مَن سيَبعَثُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فرَغِبوا النَّاسُ في أنْ يَنالوا ذلك؛ لمَا فيه مِن تَزْكيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووَصْفِه للرَّجلِ المُخْتارِ بالأمانةِ، وليس حِرصًا على الوِلايةِ والمَسؤوليَّةِ، فبعَثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبا عُبَيْدةَ بنَ الجرَّاحِ رَضيَ اللهُ عنه، وقال"هذا أمينُ هذه الأُمَّةِ"، وإنَّما خَصَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالأمانةِ، وإنْ كانت مُشترَكةً بيْنَه وبيْنَ غيرِه منَ الصَّحابةِ؛ لغلَبَتِها فيه بالنِّسبةِ إليهم، وقيلَ: لكَوْنِها غالِبةً بالنِّسبةِ إلى سائرِ صِفاتِه.
وفي الحَديثِ: فَضيلةٌ ظاهِرةٌ لأبي عُبَيْدةَ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: تَطلُّعُ الصَّحابةِ للخَيرِ وحِرصُهم عليه.
وفيه: مَشْروعيَّةُ مُباهَلةِ المُخالِفِ إذا أصَرَّ بعدَ ظُهورِ الحُجَّةِ.الدرر السنية.
"إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"
62.
أي: إنَّ هذا الَّذي قصَصْناه عليك من أمرِ عيسى عليه السَّلام، وأنَّه عبدٌ لله ورسوله، هو القَصَصُ الحقُّ، والصِّدقُ، وما خالَفه فهو باطلٌ.

وقد أكد- سبحانه- صدق هذا القصص بحرف إن وباللام في قوله لَهُوَ وبضمير الفصل "هُوَ" وبالقصر الذي تضمنه تعريف الطرفين وذلك ليكون الرد حاسمًا على كل مُنْكِرٍ ما أخبر الله به في شأن عيسى- عليه السّلام- وفي كل ما قصه على نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ :أي: وما من معبود بحقٍّ إلَّا اللهُ؛ نفي قاطع لأن يكون هناك إله سوى الله- تعالى- وإثبات بأن الألوهية الحقة إنما هي لله رب العالمين.
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:. تذييل قُصد به تأكيد قصر الألوهية على الله- تعالى- وحده، أي وإن الله- تعالى- لهو المنفرد بالألوهية وحده لأنه هو الغالب الَّذي لا يُغلَب الذي يَقهر ولا يُقهر، فهو الَّذي قهَر كلَّ شيءٍ وخضع له، العزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، وادعى معه إلهًا غيرَه، أو عبد ربًّا سواه. ذو الحكمةِ الذي يضع الأشياء مواضعها،لا يدخل في تدبيره وَهَنٌ، ولا يلحقه خللٌ فهو الحكيم في كل ما يخلقه ويدبره.



"فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ.63."
أي: فإنْ أعرَضوا عن الإقرار بالتَّوحيد، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه، وعدَلوا عن الحقِّ إلى الباطل، فهُمُ المفسِدون، واللهُ عليمٌ بهم، ويُجازيهم على ذلك شرَّ الجزاء، ويُعاقبُهم أشدَّ العُقوبة.
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 09-28-2024, 03:53 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,050
y

تفسير سورة آل عمران
من آية 64 إلى آية 82
" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّامُسْلِمُونَ"64.
لَمَّا نَكَصَ أهلُ الكتاب عن المباهلة بعد أنْ أَوْرَدَ عليهم أنواع الحُجج فانقطعوا، فلم تبقَ لهم شُبهةٌ، وقَبِلوا الصَّغارَ والجزية، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حريصًا على هداية الخَلق- لذا أمَره الله تعالى أن يقومَ بتكرير دَعوتهم، وإرشادِهم بطريقٍ آخر فقال " تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ" إلى الكلمةِ الَّتي قامت البراهين على حقيَّتها، ونهضت الدَّلائل على صِدقها،
فقد طلب منهم فيه أن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يخلصوا لله العبادة فقال قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ:
السواء: مصدر مستوية أي هلموا إلى كلمة لا تختلف فيها الرسل والكتب المنزلة والعقول السليمة، كلمة ليست مختصة بأحدنا دون الآخر، بل مشتركة بيننا وبينكم ، كلمة عادلة مستقيمة ليس فيها ميل عن الحق.كلمة هي أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعًا .
ثم بين- سبحانه- هذه الكلمة العادلة المستقيمة التي هي محل اتفاق بين الأنبياء فقال " أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ" أي نترك نحن وأنتم عبادة غير الله، بأن نفرده وحده بالعبادة والطاعة والإذعان. فنفرد الله بالعبادة ونخصه بالحب والخوف والرجاء ولا نشرك به نبيًا ولا ملكًا ولا وليًّا ولا صنمًا ولا وثنًا ولا حيوانًا ولا جمادًا. فهذه دعوةُ الرُّسل- كما قال الله تعالى"وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ "الأنبياء: 25.
وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا" أي ولا نشرك معه أحدًا في العبادة والخضوع، بأن نقول: فلان إله، أو فلان ابن إله، أو أن الله ثالث ثلاثة.
وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ:أي ولا يطيع بعضنا بعضًا في معصية الله.وإلى هذا أشار- سبحانه- بقوله "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا" التوبة: 31. أي كانوا يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه، ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها‏.‏
فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي: فإنْ أعْرَضوا عن إجابة ما دُعُوا إليه فقولوا- أيُّها المؤمنون- لهؤلاء المعرِضين: اشهدوا أنَّنا مُستمرُّون على الإسلام ، منقادون لشريعتِه، مقرُّون بتوحيد الله، مُخلِصون في عبادتِه .
أى فإن أعرض هؤلاء الكفار عن دعوة الحق، وانصرفوا عن موافقتكم بسبب ما هم عليه من عناد وجحود فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم، بل قولوا لهم: اشهدوا: بأنا مسلمون مذعنون لكلمة الحق ، منقادون لشريعتِه، مقرُّون بتوحيد الله، مُخلِصون في عبادتِه .بخلافكم أنتم فقد رضيتم بما أنتم فيه من باطل.
َا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"65.
أي: يا أهلَ الكتاب، من اليَهود والنَّصارى،لِمَ تجادلون بالباطل وتخاصمون في إبراهيمَ خليلِ الرَّحمن، ويدَّعي كلُّ فريقٍ منكم أنَّه كان منهم ويَدِينُ دِينهم. فيدعى بعضكم أنه كان على الديانة اليهودية، ويدعى البعض الآخر أنه كان على الديانة النصرانية، فإن التوراة والإنجيل ما نزلا إلا من بعده بأزمان طويلة .
أَفَلَا تَعْقِلُونَ : الاستفهام لتوبيخهم وتجهيلهم في دعواهم أن إبراهيم- عليه السّلام- كان يهوديًا أو نصرانيًا.
"هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" 66.
يا معشر أهل الكتاب جادلتم وبادلتم الحجة- سواء أكانت صحيحة أم فاسدة في أمر لكم به علم في الجملة، كجدالكم فيما وجدتموه في كتبكم من أمر موسى وعيسى- عليهما السلام- أو كجدالكم فيما جاء في التوراة والإنجيل من أحكام، ولكن كيف أبحتم لأنفسكم أن تجادلوا في أمر ليس لكم به علم أصلا، وهو جدالكم في دين إبراهيم وشريعته؟
قال الرازي: وقوله ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ : يحتمل أنه لم يصفهم بالعلم حقيقة وإنما أراد أنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به البتة.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ : أي والله- تعالى- يعلم حال إبراهيم ودينه، ويعلم كل شيء في هذا الوجود، وأنتم لا تعلمون ذلك.
"مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " 67.
ثم صرحت الأيات ببراءة إبراهيم من اليهودية والنصرانية وكل دين يخالف دين الإسلام.
وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا: إبراهيم عليه السلام كان حنيفًا أي مائلا عن العقائد الزائفة متحريًا طريق الاستقامة وكان مُّسْلِمًا أي مستسلمًا لله- تعالى- منقادًا له مخلصًا له العبادة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يشركون مع الله آلهة أخرى
وقوله حَنِيفًا من الحنف وهو ميل عن الضلال إلى الاستقامة، بعكس الجنف فهو ميل عن الاستقامة إلى الضلال ويقال: تحنف الرجل أي تحرى طريق الاستقامة.
"إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ"68.
إن أقرب الناس من إبراهيم، وأخصهم به، وأحقهم بالانتساب إليه أصناف ثلاثة:
أولهم: بينه الله بقوله لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي الذين أجابوا دعوته في حياته واتبعوا دينه وشريعته بعد مماته.
وقد أكد الله- تعالى- حُكمه هذا بحرف إِنَّ وبأفعل التفضيل أَوْلَى وباللام في قوله لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ليرد على أقاويل أهل الكتاب ومفترياتهم حيث زعموا أنه كان يهوديًا أو نصرانيًا.
وثاني هذه الأصناف: بيَّنَه- سبحانه- بقوله وَهذَا النَّبِيُّ والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم الداعي إلى التوحيد الذي دعا إليه إبراهيم.
والجملة الكريمة من عطف الخاص على العام للاهتمام به. وللإشعار بأنه صلّى الله عليه وسلّم قد تلقى الهداية من السماء كما تلقاها إبراهيم- عليه السّلام-
وثالث هذه الأصناف: بينه الله- تعالى- بقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا أي: والذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم واتبعوه.
وفي هذا تنويه بشأن الأمة الإسلامية، وتقرير بأن أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم أحق بالانتساب إلى إبراهيم من أهل الكتاب لأن المؤمنين طلبوا الحق وآمنوا به، أما أهل الكتاب فقد باعوا دينهم بدنياهم، وتركوا الحق جريا وراء شهواتهم.
وقوله وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تذييل مقصود به تبشير المؤمنين بأن الله- تعالى- هو ناصرهم ومتولى أمورهم.
"وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ"69.
أي أن بعض أهل الكتاب لا يكتفون بما هم فيه من ضلال، بل يحاولون أن يضلوا غيرهم
وَدَّت: من الود وهو محبة الشيء وتمني حصوله ووقوعه. ومن المعلوم أن من ود شيئا سعى بجهده على تحصيل مراده، فهذه الطائفة تسعى وتبذل جهدها في رد المؤمنين عنِ الحقِ وإدخال الشُّبه عليهم بكل طريق يقدرون عليه، ولكن من لطف الله أنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْوَمَا يَشْعُرُونَ: فسعيهم في إضلال المؤمنين زيادة في ضلال أنفسهم وزيادة عذاب لهم وهم لا يشعرون بهذه العاقبة، بذلك أنهم يسعون في ضرر أنفسهم وأنهم لا يضرونكم شيئًا.
"يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ "70.
أي: يا أهل الكتاب لماذا تكفرون بآيات الله- تعالى- التي يتلوها عليكم نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم والحال أنكم تعلمون صدقها وصحتها علمًا يقينيًا كعلم المشاهدة والعيان، وتعرفون أنه نبي حقًا كما تعرفون أبناءكم.
والاستفهام في قوله لِمَ تَكْفُرُونَ لتوبيخهم والتعجيب من شأنهم، وإنكار ما هم عليه من كفر بآيات الله مع علمهم بصدقها.وفي هذا النداء إشارة إلى أن ما أعطوه من علم كان يقتضي منهم أن يسارعوا إلى الإيمان لا أن يكفروا بآيات الله الدالة على صدق نبيه صلّى الله عليه وسلّم والتي تتناول القرآن الكريم، والحجج والمعجزات التي جاءهم بها صلّى الله عليه وسلّم.
"يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ "71.
يا أهل الكتب لماذا تخلطون الحق الواضح الذي نطقت به الكتب السماوية، وأيدته العقول السليمة، بالباطل الذي تخترعونه من عند أنفسكم إرضاء لأهوائكم؟ ولماذا تكتمون الحق الذي تعرفونه - ومن ذلك كتمانُهم صفةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الموجودةَ في كتُبهم، ونبوَّتَه -كما تعرفون أبناءكم بغية انصراف الناس عنه، لأن من جهل شيئا عاداه.
"وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"72.
طائفة: أي جماعة وهم الأحبار والرؤساء ذَكر بعضَهم ولم يعمَّهم؛ لأنَّ مِنهم مَن آمَن . ثم أخبر تعالى عن ما همت به هذه الطائفة الخبيثة، وإرادة المكر والفتنة بالمؤمنين،
أي:قال بعض أهل الكتاب ادخلوا في دينهم على وجه المكر والكيد أول النهار، فإذا كان آخر النهار فاخرجوا منه - ليوهموا حديثي العهد بالإسلام أو ضعاف الإيمان، أنهم قوم يبحثون عن الحقيقة، وأنهم ليس عندهم أي عداء للنبي صلّى الله عليه وسلّم بل إن الذي حصل منهم هو أنهم بعد دخولهم في الإسلام وجدوه دينًا باطلا وأنهم ما عادوا إلى دينهم القديم إلا بعد الفحص والاختبار وإمعان النظر في دين الإسلام.
"لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" لعل هذه الحيلة تجعل المؤمنين يرجعون عن دينهم، فيقولون لو كان صحيحًا لما خرج منه أهل العلم والكتاب، هذا الذي أرادوه عُجبا بأنفسهم وظنًا أن الناس سيحسنون ظنهم بهم ويفتنون بهم ويتابعونهم على ما يقولونه ويفعلونه، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
"وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" 72.
هذه الآية تبين لنا لونًا من عصبية اليهود وتعاونهم على الإثم والعدوان . هذا نهي ، وهو من كلام اليهود بعضهم لبعض ينهى بعضهم بعضًا بألا تثقوا ولا تطمئنوا ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم.
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ: أي: قل- يا محمَّدُ-: إنَّ التوفيقَ توفيقُ الله، والبيانَ بيانُه؛ فهو الَّذي يَهدي المؤمنين إلى الإيمانِ بما نزَّله على نبيِّه محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنْ فعلتُم ما فعلتُم، فلن يَنفعَكم ذلك شيئًا .
أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ:ثم عادَ السِّياقُ إلى كلامِ اليهودِ بعضِهم لبعض ، قالوا لا تُقِرُوا ولا تعترفوا بأن أحدًا من المسلمين أو من غيرهم يُؤتَى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة والفضائل، أو بأن أحدًا في قدرته أن يحاججكم أي يبادلكم الحُجة عند ربكم يوم القيامة، ولا تُقِرُّوا ولا تعترفوا بشيء من ذلك "إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ" أي إلا لمن كان على ملتكم اليهودية دون غيرها. فالعلم بزعمهم لا يكون إلا عندهم ، ثم سيق كلام معترض بين أقوالهم ساقه الله- تعالى- للمسارعة بالرد على أقوالهم الذميمة حتى يزداد المؤمنون إيمانًا على إيمانهم، ويزداد اليهود رجسًا إلى رجسهم، وينكشف ما أضمروه وما بيتوه للمؤمنين من سوء وحقد.
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ : أي قل لهم يا محمد: إن الفضل- الذي يتناول النبوة وغيرها من نعم الله على عباده- هذا الفضل وذلك العطاء بيد الله- تعالى- وحده، وهو- سبحانه- المتفضل به على من يشاء التفضل عليه من عباده، وإذا كان- سبحانه- قد جعل النبوة في بني إسرائيل لفترة من الزمان، فذلك بفضل منه ورحمته، وإذا كان قد سلبها عنهم لأنهم لم يرعوها حق رعايتها وجعلها في هذا النبي العربي فذلك- أيضًا- بفضله ورحمته، وهو- سبحانه- أعلم حيث يجعل رسالته، وهو- سبحانه- صاحب الاختيار المطلق في أن يؤتي فضله لمن يشاء من عباده. وهو- سبحانه واسِعٌ الرحمة والفضل عَلِيمٌ بمن يستحقهما وبمن لا يستحقهما.
. "وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ"الأنعام : 24.
"يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"74.
أي: يختص الله برحمته المطلقة التي تكون في الدنيا متصلة بالآخرة وهي نعمة الدين ومتمماته.
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ: أي إن فضله الواسع ورحمته العامة يعطيهما بحسب مشيئته ، لا كما يزعم أهل الكتاب مِن قَصْرِها عليهم وأنهم الشعب المختار ، فهو يبعث من يشاء نبيًّا ويبعثه رسولًا، ومن اختصه بهذا فإنما يختصه بمزيد فضله وعظيم إحسانه وعلمه وحكمته، لا بعمل قدّمه ولا لنسب شرّفه، فالله لا يحابي أحدًا لا فردًا ولا شعبًا، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرًا.

"وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" 75.
أنه- تعالى- لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا "وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ" حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس، وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير..والمعنى: إن من أهل الكتاب فريقًا إن تأتمنه على الكثير والنفيس من الأموال يؤده إليك عند طلبه كاملا غير منقوص، وإن منهم فريقًا آخر إن تأتمنه على القليل والحقير من حُطام الدنيا يستحله ويجحده ولا يؤديه إليك إلا إذا داوم صاحب الحق على المطالبة بحقه واستعمل كل الوسائل في الحصول عليه.
فالآية الكريمة قد مَدَحَتْ من يستحق المدح من أهل الكتاب وهو الفريق الذي استجاب للحق وآمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كعبد الله بن سلام وأمثاله من مؤمني أهل الكتاب. وذَمت من يستحق الذم منهم وهو الفريق الذي لا يؤدى الأمانة، ولم يستجب للحق، بل استمر على كفره وجحوده، وهذا القسم يمثل أكثرية أهل الكتاب.
والمراد من ذكر القنطار والدينار هنا العدد الكثير والعدد القليل. أي أن منهم من هو في غاية الأمانة حتى أنه لو اؤتمن على الأموال الكثيرة لأداها، ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى أنه لو اؤتمن اؤتمن على الشيء القليل لجحده.
ثم حكى- سبحانه- بعض الأسباب التي جعلتهم يبررون خيانتهم وجحودهم لحقوق غيرهم فقال- تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. والمراد بالأميين: العرب، خصوصًا مَنْ آمن منهم، وسمي العرب بالأميين نسبة إلى الأم، وذلك لغلبة الأمية عليهم لكأن الواحد منهم قد بقي على الحالة التي ولدتهم عليها أمهاتهم من عدم القراءة والكتابة.
والسبيل: المراد به: الحجة الملزمة والحرج. وأصله الطريق، ثم أطلق على الحجة باعتبارها طريقًا ووسيلة للإلزام وتحمل التبعات.
أي: ذلك الامتناع عن الوفاء بالعهود، وجحود الأمانات والحقوق من الفريق الخائن. سببه زعمهم الباطل أنهم ليس عليهم حرج أو إثم أو تبعة في استحلال أموال العرب الأميين واستلابها منهم بأية طريقة، لأن الأميين ليسوا على ملتهم.
واليهود يزعمون أن كتابهم يحل لهم قتل من خالفهم، كما يحل لهم أخذ ماله بأي وسيلة. فجَمعوا بين جريمتَينِ، وهما: أكْل الحرام، وادِّعاء حِلِّه، وهذا هو الكذبُ الَّذي قالوه على الله مع عِلمهم أنَّهم كاذبون في ذلك.
ثم أَبطَل اللهُ دعواهم تلك، وبيَّن لهم أنَّه ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون فقال تعالى :
"بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ"76.
أي: ليس الأمْر كما يقولُ هؤلاء الكاذِبون على اللهِ مِن اليهود، من أنَّه ليس عليهم في أموال الأمِّيِّين حَرَجٌ ولا إثمٌ، ولكنَّ الَّذي أوْفَى بعهد الله منكم يا أهلَ الكتاب، الَّذي عاهدَكم عليه من الإيمانِ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وصدَّق بما جاء به من الله، وأدَّى الأمانة إلى مَن ائتمنَه عليها، إلى غير ذلك، واتَّقى ما نهاه اللهُ عنه من الكُفرِ به وسائرِ معاصيه الَّتي حرَّمها عليه، وأطاعه واتَّبَعَ شريعتَه.فإنَّ الله يحبُّ الَّذين يَتَّقونه، فيخافون عقابَه، ويَحذَرون عذابه، باجتنابِ ما نهاهم عنه وحرَّمه عليهم، وطاعتِه فيما أمرَهم به.
" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" 77.
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ :أي: إنَّ الَّذين يَستبدِلون.
والمراد بِعَهْدِ اللَّهِ كل ما يجب الوفاء به، فيدخل فيه ما أوجبه الله- تعالى- على عباده من فرائض وتكاليف، ومن إيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، كما يدخل فيه- أيضًا- ما أوجبه الله على أهل الكتاب من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يجدون نعته في كتبهم، ويعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم.
والمراد بأيمانهم تلك: الأيمان الكاذبة التي يحلفونها ليؤكدوا ما يريدون تأكيده من أقوال أو أفعال.
والمراد بالثمن القليل: حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو المال والمنافع الزائلة، التي أخذوها نظير تركهم لعهود الله، وحلفهم الكاذب.
ويدخل في ذلك كل من أخذ شيئا من الدنيا في مقابلة ما تركه من حق الله أو حق عباده، وكذلك من حلف على يمين يقتطع بها مال معصوم فهو داخل في هذه الآية، فهؤلاء.
وقوله أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي الذين يخونون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في مقابل عَرَض من أعراض الدنيا، لا نصيب لهم ولا حظ من نعيم الآخرة بسبب ما ارتكبوه من غدر وافتراء.
وقوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ أي لا يكلمهم بما يسرهم بل يكلمهم بما يسوؤهم ويخزيهم يوم القيامة بسبب أعمالهم السيئة.
أو أن عدم كلام الله- تعالى- لهم: كناية عن عدم محبته لهم، لأن من عادة المحب أن يقبل على حبيبه ويتحدث إليه، أما المبغض لشيء، فإنه ينصرف عنه.
وقوله وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أى لا يعطف عليهم ولا يرحمهم ولا يحسن إليهم، وذلك كما يقول القائل لغيره: انظر إلي، يريد: ارحمني واعطف على.
ويقال: فلان لا ينظر إلى فلان، والمراد من ذلك نفي الإحسان إليه وترك الاعتداد به، فقد جرت العادة بأن من اعتد بإنسان وعطف عليه التفت إليه.
وقوله- تعالى- وَلا يُزَكِّيهِمْ أي أنه- سبحانه- لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وأوزارهم بالمغفرة، بل يعاقبهم عليها. أو أنه- سبحانه- لا يثنى عليهم كما يثنى على الصالحين من عباده، بل يسخط عليهم وينتقم منهم جزاء غدرهم.
ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان النتيجة المترتبة على هذا الغضب منه عليهم، فقال:وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
أي ولهم عذاب مؤلم موجع بسبب ما ارتكبوه من آثام وسيئات.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا بأنهم لا حظ لهم من نعيم الآخرة، وأنهم ليسوا أهلا لرضا الله ورحمته وإحسانه، وأنهم سينالون العذاب المؤلم الموجع بسبب ما قدمت أيديهم.
"وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"78.
يَلْوُونَ: مأخوذ من اللَّي. وأصل اللَّي الميل.
أي: وإنَّ من أهل الكتابِ جماعةً يَعطِفون ويُمِيلون ألسنتَهم بالكتاب؛ إمَّا بتحريفِ لفظِه، وإمَّا بتحريفِ معناه بتفسيرِه على غيرِ مرادِ الله ،أي وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم في حال قراءتهم للكتاب، إما بحذف حروف يتغير المعنى بحذفها، أو بزيادة تفسد المعنى، أو بغير ذلك من وجوه التغيير والتبديل.ليوهموا غيرهم أنه في كتاب الله وينسبونه إلى الله ولا يكتفون بهذا التحريف، بل يقولون هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي هذا المحرف هو نزل من عند الله هكذا، لم ننقص منه حرفا ولم نزد عليه حرفا،وَهُوَ مَا غَيَّرُوا مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَةِ الرَّجْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ: نزه الله نفسه عن المعاني الفاسدة ،فالحق أن هذا المحرف ليس من عند الله ولكنهم قوم ضالون يقولون على الله الكذب وهم يعلمون أنهم كاذبون.
ففي هذه الجملة الكريمة بيان لإصرارهم على الباطل، ولتعمدهم الكذب على الله، ، وكذبهم هذا لم يكن عن جهل أو عن نسيان وإنما عن علم وإصرار على هذا الكذب، وهذا ما يشهد به قوله- تعالى- وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَأَلْحَقُوا بِكِتَابِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ.
وهكذا القلوب إذا فسدت، واستولى عليها الحسد والجحود، ارتكبت كل رذيلة ومنكر بدون تفكر في العواقب، أو تدبر لما جاءت به الشرائع، وأمرت به العقول السليمة.
"مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" 79.
نزه الله- تعالى- أنبياءه- عليهم الصلاة والسّلام- وعلى رأسهم محمد صلّى الله عليه وسلّم عن أن يطلبوا من الناس أن يعبدوهم، عقب تنزيهه- سبحانه- لذاته عما يقوله المفترون.
قال ابن كثير: عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال:قال أبو رافِعٍ القُرَظيُّ، حينَ اجتَمَعتِ الأحبارُ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى مِن أهلِ نَجرانَ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ودَعاهم إلى الإسلامِ: أتُريدُ يا مُحمدُ أنْ نَعبُدَكَ كما تَعبُدُ النَّصارى عيسى ابنَ مَريَمَ؟ فقال رَجُلٌ مِن أهلِ نَجرانَ نَصرانيٌّ يُقالُ له الرَّئيسُ: أوَذاكَ تُريدُ مِنَّا يا مُحمدُ، وإليه تَدعونا؟ أو كما قال. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَعاذَ اللهِ أنْ نَعبُدَ غَيرَ اللهِ، أو أنْ نَأمُرَ بعِبادةِ غَيرِه، ما بذلك بَعَثَني، ولا بذلك أمَرَني. أو كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ في ذلك مِن قَولِهما"مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ" آل عمران: 79، إلى قَولِه"بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"آل عمران: 80".الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : أحمد شاكر - المصدر : عمدة التفسير - الصفحة أو الرقم : 1/385 - خلاصة حكم المحدث : أشار في المقدمة إلى صحته.
رد على أولئك الجاهلين الذين زعموا أن بعض النبيين يصح له أن يطلب من الناس أن يعبدوه من دون الله.
والمعنى: لا يصح ولا ينبغي ولا يستقيم لأحدٍ منَ الناسِ آتاه الله- تعالى- وأعطاه الْكِتابَ الناطق بالحق، الآمر بالتوحيد، الناهي عن الإشراك، وآتاه الْحُكْمَ أي الحِكْمَة ، وآتاه النُّبُوَّةَ أي الرسالة التي يبلغها عنه- سبحانه- إلى الناس، ليدعوهم إلى عبادته وحده، وإلى مكارم الأخلاق، لا يصح له ولا ينبغي بعد كل هذه النعم وبعد هذا العطاء العظيم ، ثمَّ يدْعو إلى عِبادةِ نفْسه، ويقول للنَّاس: كُونُوا عِبادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ:
وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ استدراك قُصِدَ به إثبات ما ينبغي للرسل أن يقولوه. بعد أن نفى عنهم ما لا ينبغي لهم أن ينطقوا به
والمراد بالربانى: الإنسان الذي أخلص لله- تعالى- في عبادته، وراقبه في كل أقواله وأفعاله، واتقاه حق التقوى، وجمع بين العلم النافع والعمل به، وقضى حياته في تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم.
كونوا رَبَّانِيِّينَ أي مقبلين على طاعة الله- تعالى- وعبادته وحده بجد ونشاط وإخلاص، بسبب كونكم تعلِّمون غيركم الكتاب الذي أنزله الله لهداية الناس، وبسبب كونكم دارسين له، أي قارئين له بتمهل وتدبر.فأنتم أولى بالهداية لتجمعوا بين هداية الإرشاد – بدعوة الخلق للحق - وهداية التوفيق – بالاستقامة على الحق -.
قال الرازي: دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيًّا، فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيه وخاب عمله، وكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: "نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع" .ا.هـ.
عَن أبي هُرَيْرةَ قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ الأربعِ، مِن عِلمٍ لا ينفَعُ، ومِن قَلبٍ لا يخشَعُ، ومِن نَفسٍ لا تَشبعُ، ومِن دُعاءٍ لا يُسمَعُ"الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود- الصفحة أو الرقم : 1548 - خلاصة حكم-المحدث : صحيح.
"وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ"80.
تعميم بعد تخصيص، أي: لا يأمركم بعبادة نفسه ولا بعبادة أحد من الخلق من الملائكة والنبيين وغيرهم .
وتأكيد لنفي أن يقول أحد من البشر الذين أتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة للناس اعبدوني من دون الله، وتنزيه لساحتهم عن أن يأمروهم بعبادة غير الله.
والاستفهام في قوله أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ للإنكار الذي بمعنى النفي.
أي: أن الرسل الكرام لا يمكن أن يأمروا الناس بالكفر بالله بعد أن هداهم الله- تعالى للإسلام.
إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ :الإسلام دين كل الرسل والأنبياء
."إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ " آل عمران : 19. الإسلام يعني: الدين الذي ارتضاه الله -تبارك وتعالى- للخلق، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، هو الانقياد لله وحده بالطاعة، والاستسلام له بالعبودية، واتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فيما بعثهم الله به، إلى أن خُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكلهم أرسله الله بالإسلام، وكلهم كان يدعو إلى التوحيد.اتَّفق جميعُ الرُّسُلِ عليهم السَّلامُ على الدَّعوةِ إلى عبادةِ اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له، واجتنابِ الشِّركِ.
قال الله تعالى"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ "النحل: 36.
قال ابنُ تَيميَّةَ"فإنَّ الرُّسُلَ جميعَهم أُمِروا بالتَّوحيدِ وأَمَروا به؛ قال اللهُ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ "الأنبياء: 25.
"وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ"81.
والميثاق هو العهد وسمي الميثاق عهدًا لأن كلا من المتعاهدين يتوثق به مع الآخر، كالوثاق الحبل الذي يشد به الإنسان.
وَالْإِصْرُ: الْعَهْدُ الثَّقِيلُ.
الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يصلح للخطاب.. أي: اذكر يا محمد أو أيها المخاطب وقت أن أخذ الله الميثاق – العهد - من النبيين.
قال البغوي في تفسيره: واخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْذَ الْمِيثَاقِ عَلَى النَّبِيِّينَ خَاصَّةً أن يبلّغوا كتاب الله ورسالته إِلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بعضا وأخذ العهود عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَنْصُرَهُ إِنْ أَدْرَكَهُ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ أَنْ يَأْمُرَ قَوْمَهُ بِنُصْرَتِهِ إِنْ أَدْرَكُوهُ، فَأَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ مُوسَى أَنْ يُؤْمِنَ بِعِيسَى، وَمِنْ عِيسَى أَنْ يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: إنما أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْهُمْ فِي أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم.....ا.هـ.
لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ: أي واذكر لهم وقت أخذ الله الميثاق من النبيين أنهم كلما جاءهم رسول من بعدهم مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه مهما كانوا قد أوتوا من كتاب مثل التوراة والإنجيل – وحكمة – الحكم الفاصل بين الحق والباطل والهدى والضلال -، لأن القصد من إرسال الأنبياء واحد، فيجب أن يكونوا متكافلين متناصرين، فإذا جاء واحد منهم في زمن نبي آخر آمن به السابق ونصره بما استطاع ولا يستلزم ذلك نسخ شريعة الأول، إذ المقصود تصديق دعوته، ونصره على من يؤذيه ويناوئه. فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شيء من شريعة الأول وجب التسليم له، وإلا صدّقه في الأصول التي هي واحدة في كل دين، ويؤدي كل منهما مع أمته العبادات والمناسك التفصيلية، ولا يعد هذا اختلافا وتفرقا في الدين.
فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أوجب الله عليهم أن يؤمن بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضًا لأن جميع ما عندهم هو من عند الله، وكل ما من عند الله يجب التصديق به والإيمان، فهم كالشيء الواحد، فعلى هذا قد علم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم، فكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لو أدركوه لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم،
أنَّ النبيَّ غضب حين رأى مع عمرَ صحيفةً فيها شيءٌ من التَّوراةِ وقال : أوَفي شكٌّ أنتَ يا ابنَ الخطابِ ؟ ألم آتِ بها بيضاءَ نقِيَّةً ؟ لو كان أخي موسى حيًّا ما وسِعَه إلا اتِّباعي"الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : إرواء الغليل - الصفحة أو الرقم : 1589 - خلاصة حكم المحدث : حسن.
قال صلى الله عليه وسلم "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، في الأُولَى وَالآخِرَةِ قالوا: كيفَ؟ يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: الأنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِن عَلَّاتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، فليسَ بيْنَنَا نَبِيٌّ. "الراوي : أبو هريرة - صحيح مسلم.
في هذا الحديثِ يُخبِرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه أَولى النَّاسِ بنَبيِّ اللهِ عِيسى ابنِ مَريمَ عليه السَّلامُ، يعني: أخصُّ النَّاسِ به وأقْرَبُهم إليه؛ وذلك لأنَّ عِيسى عليه السَّلامُ بَشَّرَ بنُبُوَّةِ نَبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما أخبَرَ اللهُ تعالَى في كِتابِه العَزيزِ"وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ"الصف: 6، فلمْ يَكُنْ بيْنهما نَبِيٌّ مِن الأنبياء، وبيَّنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الأنبياءَ مِثلُ أولادِ عَلَّاتٍ، وهمُ الإخوةُ لِأبٍ واحدٍ مِن أُمَّهاتٍ مُختلفةٍ، والمعنى: أنَّهم مُتَّفِقون فيما يَتعلَّقُ بالاعتقاديَّاتِ المُسمَّاةِ بأُصولِ الدِّياناتِ، كالتَّوحيدِ، والإيمانِ، مُختلِفون فيما يَتعلَّقُ بالعمَليَّاتِ، وهي الفِقهيَّاتُ، كما أنَّ أولادَ العَلَّاتِ أبوهمْ واحدٌ وإنْ كانت أُمَّهاتُهم شَتَّى.الدرر السنية.
فأنبياءُ اللهِ عزَّ وجلَّ وإنِ اختَلَفَت شَرائعُهم، إلَّا إنَّهم جَميعَهم إخوةٌ في الدِّينِ، فدِينُ اللهِ واحدٌ، وهو الإسلامُ.
قَوْلِهِ: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ، يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ،أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي " أَيْ: قَبِلْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ عَهْدِي، أي: اعترفتُم والتزمتُم بذلك الميثاقِ، وأخذتُم عهدي الثَّقيل، ومِيثاقي الشَّديد المؤكَّد، ووصيَّتي بالإيمانِ بهذا الرَّسول ونُصرته، وقَبِلتُم ذلك ورضيتُموه؟
" قالُوا أَقْرَرْنا " أي: قالوا: اعتَرفنا وقَبِلنا، والتَزمنا بأنْ نؤمِنَ به ونَنصُره. قالَ، اللَّهُ تَعَالَى"فَاشْهَدُوا" أي: قال اللهُ تعالى للأنبياءِ: فاشَهْدوا على أنفسِكم، وعلى أَتْباعِكم من الأُممِ بذلك " وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ " أي وأنا مِن الشَّاهدين عليكم وعلى أُممكم، وكفَى بالله شهيدًا.
ويدل لذلك أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جمع الله له الأنبياء ليلة المعراج صار هو إمامهم فصار هو المتبوع لا التابع عليه الصلاة والسلام . ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم جامعة للتصديق بجميع رسالاته.
لقَدْ رَأَيْتُنِي في الحِجْرِ وقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عن مَسْرايَ، فَسَأَلَتْنِي عن أشْياءَ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْها، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً ما كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، قالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لي أنْظُرُ إلَيْهِ، ما يَسْأَلُونِي عن شيءٍ إلَّا أنْبَأْتُهُمْ به، وقدْ رَأَيْتُنِي في جَماعَةٍ مِنَ الأنْبِياءِ، فإذا مُوسَى قائِمٌ يُصَلِّي، فإذا رَجُلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كَأنَّهُ مِن رِجالِ شَنُوءَةَ، وإذا عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ عليه السَّلامُ قائِمٌ يُصَلِّي، أقْرَبُ النَّاسِ به شَبَهًا عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وإذا إبْراهِيمُ عليه السَّلامُ قائِمٌ يُصَلِّي، أشْبَهُ النَّاسِ به صاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ، فَحانَتِ الصَّلاةُ فأمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ قالَ قائِلٌ: يا مُحَمَّدُ، هذا مالِكٌ صاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عليه، فالْتَفَتُّ إلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بالسَّلامِ.الراوي : أبو هريرة - صحيح مسلم.
وفي الحَديثِ: بيانٌ لفَضلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما وَصَل إلَيه من منزِلَةٍ عِندَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وفيهِ: بَيانُ عِنايةِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى بِنَبيِّه وتَأييدِه بالبَيِّناتِ.

" فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" 82.
أي: فمَن تولَّى وأَعْرضَ بعد ذلك عن هذا العهدِ والميثاق، بالإيمانِ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واتِّباعِه ونُصْرتِه مِن أُممِ هؤلاءِ الأنبياء. فأولئك هم الخارِجونَ مِن دِين الله، والمُعرِضون عن طاعتِه.واستحقوا الخلود في النار.

التعديل الأخير تم بواسطة أم أبي التراب ; 10-01-2024 الساعة 02:34 AM
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



أوقات الصلاة لأكثر من 6 ملايين مدينة في أنحاء العالم
الدولة:

الساعة الآن 07:28 AM بتوقيت مسقط


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir
Powered & Developed By Advanced Technology