عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 09-05-2013, 03:50 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,016
الفصلُ الخامسُ
آدابُ الطالبِ في حياتِه العِلْمِيَّةِ

24- كِبَرُ الْهِمَّةِ في العِلْمِ :
من سجايا الإسلامِ التَّحَلِّي بكِبَرِ الْهِمَّةِ ؛ مرْكَزِ السالِبِ والموجِبِ في شَخْصِك ، الرقيبِ على جوارِحِك ، كِبَرُ الْهِمَّةِ يَجْلُبُ لك بإذْنِ اللهِ خَيْرًا غيرَ مَجذوذٍ ، لتَرْقَى إلى دَرجاتِ الكَمالِ ، فيُجْرِيَ في عُروقِك دَمَ الشَّهَامةِ ، والرَّكْضَ في مَيدانِ العِلْمِ والعَمَلِ ، فلا يَراكَ الناسُ وَاقِفًا إلا على أبوابِ الفضائلِ ولا باسطًا يَدَيْكَ إلا لِمُهِمَّاتِ الأمورِ .
والتَّحَلِّي بها يَسْلُبُ منك سَفاسِفَ الآمالِ والأعمالِ ، ويَجْتَثُّ منك شَجرةَ الذُّلِّ والهوانِ والتمَلُّقِ والْمُداهَنَةِ فَكَبِيرُ الْهِمَّةِ ثابتُ الْجَأْشِ ، ولا تُرْهِبُهُ المواقِفُ ، وفاقِدُها جَبانٌ رِعديدٌ ، تُغْلِقُ فَمَه الفَهَاهَةُ .
ولا تَغْلَطْ فتَخْلِطْ بينَ كِبَرِ الْهِمَّةِ والكِبْرِ ؛ فإنَّ بينَهما من الفَرْقِ كما بينَ السماءِ ذاتِ الرَّجْعِ والأرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ .
كِبَرُ الْهِمَّةِ حِلْيَةُ وَرَثَةِ الأنبياءِ ، والكِبْرُ داءُ الْمَرْضَى بعِلَّةِ الْجَبابِرَةِ البُؤَسَاءِ ، فيا طالبَ العلْمِ ! ارْسُمْ لنفسِكَ كِبَرَ الْهِمَّةِ ، ولا تَنْفَلِتْ منه ، وقد أَوْمَأَ الشرْعُ إليها في فِقْهِيَّاتٍ تُلابِسُ حياتَك ؛ لتكونَ دائمًا على يَقَظَةٍ من اغتنامِها ، ومنها إباحةُ التيَمُّمِ للمُكَلَّفِ عندَ فَقْدِ الماءِ وعدَمُ إلزامِه بقَبولِ هِبَةِ ثَمَنِ الماءِ للوُضوءِ ؛ لما في ذلك من الْمِنَّةِ التي تَنالُ من الْهِمَّةِ مَنَالًا وعلى هذا فقِسْ ، واللهُ أَعْلَمُ .

25- النَّهْمَةُ في الطَّلَبِ :

إذا عَلِمْتَ الكلمةَ المنسوبةَ إلى الخليفةِ الراشدِ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ : ( قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحْسِنُه ) وقد قِيلَ : ليس كلمةٌ أحَضَّ على طَلَبِ العلْمِ منها ؛ فاحْذَرْ غَلَطَ القائلِ : ما تَرَكَ الأَوَّلُ للآخِرِ . وصوابُه : كم تَرَكَ الأَوَّلُ للآخِرِ .
فعليك بالاستكثارِ من مِيراثِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وابْذُل الوُسْعَ في الطلَبِ والتحصيلِ والتدقيقِ ، ومَهْمَا بَلَغْتَ في العِلْمِ ؛ فتَذَكَّرْ ( كم تَرَكَ الأوَّلُ للآخِرِ ) .
وفي تَرجمةِ أحمدَ بنِ عبد الجليلِ من ( تاريخِ بَغدادَ ) للخطيبِ ذِكْرٌ من قصيدةٍ له :
لا يكون السرى مثل الدنى***** لا و لا ذو الذكاء مثل الغبي
قيمة المرء كلما أحسن المرء***** قضاء من الإمام علي.
السري هو صاحب الهمة العالية
26- الرِّحْلَةُ للطَّلَبِ :
( من لم يكنْ رُحْلَةً لن يكونَ رُحَلَةً ) فمَن لم يَرْحَلْ في طَلَبِ العلْمِ للبحْثِ عن الشيوخِ ، والسياحةِ في الأَخْذِ عنهم ؛ فيَبْعُدُ تأَهُّلُه ليُرْحَلَ إليه ؛ لأنَّ هؤلاءِ العلماءَ الذين مَضَى وقتٌ في تَعَلُّمِهم وتَعليمِهم ، والتَّلَقِّي عنهم : لديهم من التَّحريراتِ والضبْطِ والنِّكاتِ العِلْمِيَّةِ ، والتجارُبِ ما يَعِزُّ الوُقوفُ عليه أو على نظائرِه في بُطونِ الأسفارِ .
واحْذَر القُعودَ عن هذا على مَسْلَكِ الْمُتَصَوِّفَةِ البطَّالِينَ ، الذين يُفَضِّلُونَ ( علْمَ الْخِرَقِ على علْمِ الوَرَقِ ) .
وقد قيلَ لبعضِهم : ألا تَرْحَلُ حتى تَسمعَ من عبدِ الرزاقِ ؟ فقالَ : ما يَصنَعُ بالسماعِ من عبدِ الرزَّاقِ مَن يَسمَعُ من الْخَلَّاقِ ؟!
وقال آخَرُ :
فاحْذَرْ هؤلاءِ ؛ فإنهم لا للإسلامِ نَصَرُوا ، ولا للكُفْرِ كَسَرُوا ، بل فيهم مَن كان بأسًا وبلاءً على الإسلامِ .

27-حفْظُ العلْمِ كتابةً :
ابْذُلْ الْجَهْدَ في حِفْظِ العلْمِ ( حِفْظَ كتابٍ ) ؛ لأنَّ تقييدَ العلْمِ بالكتابةِ أمانٌ من الضياعِ ، وقَصْرٌ لمسافةِ البحْثِ عندَ الاحتياجِ ، لا سِيَّمَا في مسائلِ العِلْمِ التي تكونُ في غيرِ مَظَانِّها ، ومن أَجَلِّ فوائدِه أنه عندَ كِبَرِ السنِّ وضَعْفِ الْقُوَى يكونُ لديكَ مادَّةٌ تَسْتَجِرُّ منها مادَّةً تَكْتُبُ فيها بلا عَناءٍ في البَحْثِ والتَّقَصِّي .
ولذا ؛ فاجْعَلْ لك ( كُناشًا ) أو ( مُذَكِّرَةً ) لتقييدِ الفوائدِ والفرائدِ والأبحاثِ الْمَنثورةِ في غيرِ مَظَانِّها ، وإن اسْتَعْمَلْتَ غُلافَ الكتابِ لتَقييدِ ما فيه من ذلك ؛ فحَسَنٌ ، ثم تَنْقُلُ ما يَجْتَمِعُ لك بعدُ في مُذَكِّرَةٍ ؛ مُرَتِّبًا له على الموضوعاتِ مُقَيِّدًا رأسَ المسألةِ ، واسمَ الكتابِ ، ورقْمَ الصفحةِ والمجلَّدِ ، ثم اكْتُبْ على ما قَيَّدْتَه : ( نُقِلَ ) ؛ حتى لا يَخْتَلِطَ بما لم يُنْقَلْ كما تَكتُبُ : ( بلَغَ صفحةَ كذا ) فيما وَصَلْتَ إليه من قراءةِ الكتابِ حتى لا يَفُوتَك ما لم تَبْلُغْه قراءةً .
وللعلماءِ مؤَلَّفَاتٌ عدَّةٌ في هذا ؛ منها : ( بدائعُ الفوائدِ ) لابنِ القَيَّمِ و( خَبايَا الزوايا ) للزَّرْكَشيِّ ، ومنها : كتابُ ( الإغفالِ ) ، و( بَقَايا الْخَبَايا ) وغيرُها ، وعليه فَقَيِّدِ العِلْمَ بالكتابِ لا سِيَّمَا بدائعَ الفوائدِ في غيرِ مَظَانِّها ، وخَبَايَا الزوايا في غيرِ مَسَاقِها ، ودُرَرًا مَنثورةً تَراهَا وتَسْمَعُها تَخْشَى فَوَاتَها … وهكذا ؛ فإنَّ الْحِفْظَ يَضْعُفُ ، والنسيانَ يَعْرِضُ .قالَ الشعبيُّ : ( إذا سَمِعْتَ شيئًا ؛ فاكْتُبْهُ ولو في الحائطِ ) .رواه خَيثَمَةُ .
وإذا اجْتَمَعَ لديك ما شاءَ اللهُ أن يَجْتَمِعَ ؛ فرَتِّبْهُ في ( تَذْكِرَةٍ ) أو ( كُناشٍ ) على الموضوعاتِ ؛ فإنه يُسْعِفُكَ في أَضْيَقِ الأوقاتِ التي قد يَعْجِزُ عن الإدراكِ فيها كِبارُ الأثباتِ .
28- حِفْظُ الرِّعايةِ :
ابْذُل الوُسْعَ في حِفْظِ العلْمِ ( حفْظَ رِعايةٍ ) بالعمَلِ والاتِّباعِ ؛ قالَ الْخَطيبُ البَغداديُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( يَجِبُ على طالِبِ الحديثِ أن يُخْلِصَ نِيَّتَه في طَلَبِه ، ويكونَ قَصْدُه وَجْهَ اللهِ سبحانَه ، ولْيَحْذَرْ أن يَجْعَلَه سَبيلًا إلى نَيْلِ الأعراضِ ) ، وطريقًا إلى أَخْذِ الأعواضِ ؛ فقد جاءَ الوعيدُ لِمَن ابْتَغَى ذلك بعِلْمِه .
ولْيَتَّقِّ المفاخَرَةَ والْمُباهاةَ به ، وأن يكونَ قَصْدُه في طَلَبِ الحديثِ نَيْلَ الرئاسةِ واتِّخاذَ الأتباعِ وعَقْدَ المجالِسِ ؛ فإنَّ الآفَةَ الداخلةَ على العُلماءِ أَكْثَرُها من هذا الوجْهِ .
ولْيَجْعَلْ حِفْظَه للحديثِ حِفْظَ رعايةٍ لا حِفْظَ روايةٍ ؛ فإنَّ رُواةَ العُلومِ كثيرٌ ، ورُعاتَها قَليلٌ ، ورُبَّ حاضرٍ كالغائبِ ، وعالِمٍ كالجاهِلِ ، وحاملٍ للحديثِ ليس معه منه شيءٌ إذ كان في اطِّرَاحِه لِحُكْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الذاهبِ عن مَعرفتِه وعِلْمِه .
ويَنبغِي لطالِبِ الحديثِ أن يَتمَيَّزَ في عامَّةِ أمورِه عن طرائقِ العَوَامِّ باستمعالِ آثارِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أَمْكَنَه ، وتوظيفِ السُّنَنِ على نفسِه ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } اهـ .
29 – تَعَاهُدُ المحفوظاتِ :
تَعاهَدْ عِلْمَك من وَقتٍ إلى آخَرَ ؛ فإنَّ عَدَمَ التعاهُدِ عُنوانُ الذهابِ للعِلْمِ مهما كان .
عن ابنِ عمرَ رَضِي اللهُ عنهما أنَّ رسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ :(( إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعْقَلَةِ ، إن عاهدَ عليها أَمْسَكَها وإن أَطْلَقَها ذَهَبَتْ )).رواه الشيخانِ ، ومالِكٌ في ( الْمُوَطَّأِ ) .
قالَ الحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ رَحِمَه اللهُ : ( وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ مَن لم يَتَعَاهَدْ عِلْمَه ذَهَبَ عنه ، أيْ مَنْ كان ؛ لأنَّ عِلْمَهم كان ذلك الوَقْتَ القرآنَ لا غيرَ ، وإذا كان القرآنُ الْمُيَسَّرُ للذكْرِ يَذْهَبُ إن لم يُتَعَاهَدْ ؛ فما ظَنُّكَ بغيرِه من العلومِ المعهودةِ ؟! وخيرُ العلومِ ما ضُبِطَ أَصْلُه ، واسْتُذْكِرَ فَرْعُه ، وقادَ إلى اللهِ تعالى ودَلَّ على ما يَرضاهُ ) اهـ . وقالَ بعضُهم ( كلُّ عِزٍّ لم يُؤَكَّدْ بعِلْمٍ فإلى ذُلٍّ مَصيرُه ) اهـ .
30 – التَّفَقُّهُ بتخريجِ الفروعِ على الأُصولِ :
من وراءِ الفِقْهِ : التَّفَقُّهُ ، ومُعْتَمِلُه هو الذي يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ .
وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ : أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ : (( نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا ، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ )) .
قالَ ابنُ خَيْرٍ رَحِمَه اللهُ تعالى في فِقْهِ هذا الحديثِ : ( وفيه بيانُ أنَّ الفِقْهَ هو الاستنباطُ والاستدراكُ في معاني الكلامِ من طريقِ التَّفَهُّمِ ، وفي ضِمْنِه بيانُ وُجوبِ التفَقُّهِ ، والبحْثُ على معاني الحديثِ واستخراجُ الْمَكنونِ من سِرِّهِ ) اهـ .
وللشيخين ؛ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ وتِلميذِه ابنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ رَحِمَهما اللهُ تعالى ، في ذلك القِدْحُ الْمُعَلَّى ، ومَن نَظَرَ في كُتُبِ هذين الإمامينِ ؛ سَلَكَ به النَّظَرُ فيها إلى التَّفَقُّهِ طَرِيقًا مُستَقِيمًا .
ومن مَلِيحِ كلامِ ابنِ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى قولُه في مَجْلِسٍ للتَّفَقُّهِ : ( أَمَّا بعدُ ؛ فقد كُنَّا في مَجلِسِ التَّفَقُّهِ في الدِّينِ ، والنظَرِ في مَدارِكِ الأحكامِ المشروعةِ ؛ تَصويرًا ، وتَقريرًا ، وتَأصيلًا ، وتَفصيلًا ، فوقَعَ الكلامُ في ... فأقولُ : لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ ، هذا مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وفَصلَيْنِ ...)
واعْلَمْ أَرْشَدَك اللهُ أنَّ بينَ يَدَي التَّفَقُّهِ : ( التَّفَكُّرَ ) فإنَّ اللهَ - سبحانَه وتعالى – دعا عِبادَه في غيرِ ما آيةٍ من كتابِه إلى التحَرُّكِ بإجالةِ النظَرِ العميقِ في ( التَّفَكُّرِ ) في مَلكوتِ السماواتِ والأرضِ وإلى إن يُمْعِنَ المرءُ النظَرَ في نفسِه ، وما حولَه ؛ فَتْحًا للقُوَى العَقليَّةِ على مِصراعَيْهَا ، وحتى يَصِلَ إلى تَقويةِ الإيمانِ ، وتَعميقِ الأحكامِ والانتصارِ العِلْمِيِّ : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ } . وعليه فإنَّ ( التفَقُّهَ ) أبعَدُ مَدًى من ( التفَكُّرِ ) ؛ إذ هو حَصيلتُه وإنتاجُه ؛ وإلا { فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} .
لكنَّ هذا التَّفَقُّهَ مَحجوزٌ بالبُرهانِ ، مَحجورٌ عن التَّشَهِّي والْهَوَى : { وَلِئْنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } .
فيا أيُّها الطالبُ ! تَحَلَّ بالنظَرِ والتفَكُّرِ ، والفقْهِ والتفَقُّهِ ؛ لعلك أن تَتجاوَزَ من مَرحلةِ الفقيهِ إلى ( فقيهِ النفْسِ) كما يقولُ الفُقهاءُ ، وهو الذي يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ ، أو ( فقيهِ البَدَنِ ) كما في اصطلاحِ الْمُحَدِّثِينَ .
فأَجْلِ النظَرَ عندَ الوارداتِ بتَخريجِ الفُروعِ على الأصولِ ، وتَمامِ العنايةِ بالقواعدِ والضوابطِ . وأَجْمِعْ للنَّظَرِ في فَرْعٍ ما بينَ تَتَبُّعِه وإفراغِه في قالَبِ الشريعةِ العامِّ من قواعدِها وأصولِها الْمُطَّرِدَةِ ؛ كقواعدِ المصالِحِ ، ودفْعِ الضرَرِ والمشَقَّةِ وجَلْبِ التيسيرِ ، وسَدِّ بابِ الْحِيَلِ وسَدِّ الذرائعِ .
وهكذا هُدِيتَ لرُشْدِكَ أَبَدًا ؛ فإنَّ هذا يُسْعِفُكَ في مَواطِنِ الْمَضايِقِ وعليك بالتَّفَقُّهِ – كما أَسْلَفْتُ – في نصوصِ الشرْعِ ، والتبَصُّرِ فيما يَحُفُّ أحوالَ التشريعِ، والتأمُّلِ في مَقاصِدِ الشريعةِ ، فإنْ خَلَا فَهْمُك من هذا ، أو نَبَا سَمْعُكَ ؛ فإنَّ وَقْتَكَ ضائعٌ ، وإنَّ اسمَ الْجَهْلِ عليك لواقِعٌ وهذه الْخَلَّةُ بالذاتِ هي التي تُعطيكَ التمييزَ الدقيقَ ، والْمِعيارَ الصحيحَ ، لِمَدَى التحصيلِ والقُدرةِ على التخريجِ .
فالفقيهُ هو مَن تَعْرِضُ له النازلةُ لا نَصَّ فيها فيَقْتَبِسُ لها حُكْمًا ، والبَلاغِيُّ ليس من يَذْكُرُ لك أقسامَها وتَفريعاتِها ، لكنه مَن تَسْرِي بَصيرتُه البلاغيَّةُ في كتابِ اللهِ ، مَثَلًا ، فيُخْرِجُ من مَكنونِ عُلومِه وُجُوهَها وإن كَتَبَ أو خَطَبَ نَظَمَ لك عِقْدَها . وهكذا في العلومِ كافَّةً .
31- اللجوءُ إلى اللهِ تعالى في الطَّلَبِ والتحصيلِ :
لا تَفْزَعْ إذا لم يُفْتَحْ لك في علْمٍ من العلومِ ؛ فقد تَعاصَتْ بعضُ العُلومِ على بعضِ الأعلامِ المشاهيرِ ، ومنهم مَن صَرَّحَ بذلك كما يُعْلَمُ من تَرَاجِمِهم، ومنهم : الأَصْمَعِيُّ في عِلْمِ العَروضِ والرُّهاويُّ المحدِّثُ في الْخَطِّ ، وابنُ صالحٍ في الْمَنْطِقِ ، وأبو مسلِمٍ النحويُّ في عِلْمِ التصريفِ والسيوطيُّ في الْحِسابِ ، وأبو عُبيدةَ ، ومحمَّدُ بنُ عبدِ الباقي الأنصاريُّ ، وأبو الحسَنِ القَطيعيُّ ، وأبو زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ زِيادٍ الفَرّاءُ ، وأبو حامدٍ الغزاليُّ ، خَمْسَتُهُم لم يُفْتَحْ لهم بالنحوِ .
فيا أيُّها الطالِبُ ! ضاعِف الرَّغبةَ ، وافْزَعْ إلى اللهِ في الدعاءِ واللجوءِ إليه والانكسارِ بينَ يَدَيْهِ .وكانَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى ، كثيرًا ما يَقولُ في دعائِه إذا اسْتَعْصَى عليه تفسيرُ آيةٍ من كتابِ اللهِ تعالى : ( اللَّهُمَّ يَا مُعَلِّمَ آدَمَ وإبراهيمَ عَلِّمْنِي ، ويا مُفَهِّمَ سليمانَ فَهِّمْنِي. فيَجِدُ الْفَتْحَ في ذلك ) .
32- الأمانةُ العلْمِيَّةُ :
يَجِبُ على طالبِ العلْمِ ، فائِقُ التحَلِّي بالأمانةِ العِلْمِيَّةِ ، في الطلَبِ والتحَمُّلِ والعمَلِ والبلاغِ ، والأداءِ :
( فإنَّ فَلاحَ الأُمَّةِ في صَلاحِ أعمالِها ، وصلاحَ أعمالِها في صِحَّةِ عُلُومِها ، وصِحَّةَ عُلومِها في أن يكونَ رجالُها أُمناءَ فيما يَرْوُونَ أو يَصِفُونَ، فمَن تَحَدَّثَ في العِلْمِ بغيرِ أمانةٍ ؛ فقد مَسَّ العلْمَ بقُرحةٍ ووَضَعَ في سبيلِ فَلاحِ الأُمَّةِ حَجَرَ عَثْرَةٍ ) .
لا تَخلُو الطوائفُ المنتمِيَةُ إلى العلومِ من أشخاصٍ لا يَطلبونَ العِلْمَ ليَتَحَلَّوْا بأَسْنَى فضِيلَةٍ ، أو ليَنْفَعُوا الناسَ بما عَرَفُوا من حِكمةٍ ، وأمثالُ هؤلاءِ لا تَجِدُ الأمانةُ في نفوسِهم مُسْتَقَرًّا ، فلا يَتَحَرَّجُون أن يَرْوُوا ما لم يَسْمَعُوا أو يَصِفُوا ما لم يَعْلَمُوا ، وهذا ما كان يَدْعُو جهابذةَ أهلِ العلْمِ إلى نَقْدِ الرجالِ ، وتَمييزِ مَن يُسْرِفُ في القوْلِ مِمَّنْ يَصوغُه على قَدْرِ ما يَعْلَمُ ، حتى أَصْبَحَ طُلَّابُ العِلْمِ على بَصيرةٍ من قِيمةِ ما يَقرؤونَه ، فلا تَخْفى عليهم مَنْزِلَتُه ، من القطْعِ بصِدقِه أو كَذِبِه ، أو رُجحانِ أحدِهما على الآخَرِ ، أو احتمالِهما على سواءٍ ) اهـ .
33- الصِّدْقُ :
صِدْقُ اللهجةِ : عُنوانُ الوَقارِ وشَرَفُ النفْسِ ، ونقاءُ السَّريرةِ وسُمُوُّ الْهِمَّةِ ورُجحانُ العَقْلِ ، ورسولُ الْمَوَدَّةِ من الْخَلْقِ ، وسعادةُ الجماعةِ وصِيانةُ الديانةِ ، ولهذا كان فَرْضُ عينٍ ، فيا خَيْبَةَ مَن فَرَّطَ فيه ، ومَن فَعَلَ فقد مَسَّ نفسَه وعِلْمَهُ بأَذًى .
قالَ الأوزاعيُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( تَعَلَّمِ الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العِلْمَ ) .
وقالَ وَكيعٌ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( هذه الصَّنْعَةُ لا يَرتفِعُ فيها إلا صادقٌ ) .
فتَعَلَّمْ – رَحِمَكَ اللهُ – الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العلْمَ ، والصدْقُ : إلقاءُ الكلامِ على وَجْهٍ مُطابِقٍ للواقِعِ والاعتقادِ ، فالصدْقُ من طريقٍ واحدٍ ، أمَّا نقيضُه الكَذِبُ فضُروبٌ وألوانٌ ومَسالِكُ وأَوديةٌ ، يَجْمَعُها ثلاثةٌ :
كَذِبُ الْمُتَمَلِّقِ : وهو ما يُخالِفُ الواقِعَ والاعتقادَ ، كمن يَتَمَلَّقُ لِمَنْ يَعْرِفُه فاسقًا أو مُبْتَدِعًا فيَصِفُه بالاستقامةِ .
وكَذِبُ المنافِقِ : وهو ما يُخالِفُ الاعتقادَ ويطابِقُ الواقعَ كالمنافِقِ يَنْطِقُ بما يقولُه أهلُ السُّنَّةِ والهدايةِ .
وكَذِبُ الغَبِيِّ : بما يُخالِفُ الواقِعَ ويُطابِقُ الاعتقادَ ، كمَن يَعتقِدُ صلاحَ صُوفِيٍّ مبتدِعٍ فيَصِفُه بالوَلايةِ .
فالْزَم الْجَادَّةَ ( الصدْقَ ) ، فلا تَضْغَطْ على عَكَدِ اللسانِ ، ولا تَضُمَّ شَفَتَيْكَ ، ولا تَفتَحْ فاكَ ناطقًا إلا على حُروفٍ تُعَبِّرُ عن إحساسِك الصادِقِ في الباطِنِ ؛ كالحُبِّ والبُغْضِ ، أو إحساسِك في الظاهِرِ ؛ كالذي تُدْرِكُه الحواسُّ الخمْسُ : السمْعُ، البَصَرُ ، الشمُّ ، الذَّوْقُ ، اللمْسُ .فالصادقُ لا يقولُ : ( أَحْبَبْتُكَ ) وهو مُبْغِضٌ ، ولا يقولُ : ( سَمِعْتُ ) وهو لم يَسْمَعْ ، وهكذا .
واحْذَرْ أن تَحومَ حولَك الظنونُ ، فتَخونَك العزيمةُ في صِدْقِ اللهجةِ ، فتُسَجَّلَ في قائمةِ الكذابينَ .وطريقُ الضَّمانةِ لهذا – إذا نَازَعَتْكَ نفسُك بكلامٍ غيرِ صادقٍ فيه - : أن تَقْهَرَهَا بذِكْرِ مَنزِلَةِ الصدْقِ وشَرَفِه ورَذيلةِ الكَذِبِ ودَرَكِه ، وأنَّ الكَاذِبَ عن قريبٍ يَنْكَشِفُ .
واستَعِنْ باللهِ ولا تَعْجِزَنَّ .ولا تَفْتَحْ لنفسِك سابلةَ الْمَعارِيضِ في غيرِ ما حَصَرَه الشرْعُ .
فيا طالبَ العلْمِ ! احْذَرْ أن تَمْرُقَ من الصدْقِ إلى الْمَعارِيضِ فالْكَذِبِ ، وأَسوأُ مَرَامِي هذا الْمُروقِ ( الكَذِبُ في العلمِ ) ؛ لداءِ مُنافَسَةِ الأقرانِ وطَيَرانِ السُّمعةِ في الآفاقِ .
ومَن تَطَلَّعَ إلى سُمْعَةٍ فوقَ مَنْزِلَتِه ؛ فلْيَعْلَمْ أنَّ في الْمِرصادِ رِجالًا يَحْمِلون بصائرَ نافذةً ، وأقلامًا ناقدةً ، فيَزِنُونَ السُّمعةَ بالأَثَرِ ، فتَتِمُّ تَعريتُك عن ثلاثةِ معانٍ :
فَقْدُ الثقةِ من القلوبِ .
ذَهابُ عِلْمِكَ وانحسارُ القَبولِ .
أن لا تُصَدَّقَ ولو صَدَقْتَ .
وبالجملةِ ؛ فمَن يَحترِفْ زُخرُفَ القولِ ؛ فهو أَخُو الساحرِ ، ولا يُفْلِحُ الساحرُ حيث أَتَى، واللهُ أَعْلَمُ .
34-جُنَّةُ طالِبِ العلْمِ :
جُنَّةُ العالِمِ ( لا أَدْرِي ) ويَهْتِكُ حِجابَه الاستنكافُ منها ، وقولُه: يُقالُ .....
وعليه ؛ فإن كان نِصْفُ العلْمِ ( لا أَدْرِي ) ؛ فنِصْفُ الجهْلِ ( يُقالُ ) و( أَظُنُّ ) .

35- المحافَظَةُ على رأسِ مالِك ( ساعاتِ عُمُرِك) :
الوقتَ الوقتَ للتحصيلِ ، فكن حِلْفَ عمَلٍ لا حِلْفَ بَطالةٍ وبَطَرٍ ، وحِلْسَ مَعْمَلٍ لا حِلْسَ تَلَهٍّ وسَمَرٍ ، فالْحِفْظُ على الوَقْتِ ؛ بالجِدِّ والاجتهادِ ومُلازَمَةِ الطلبِّ ، ومُثافَنَةِ الأشياخِ ، والاشتغالِ بالعلْمِ قراءةً وإقراءً ومطالَعَةً وتَدَبُّرًا وحِفْظًا وبَحْثًا ، لا سِيَّمَا في أوقاتِ شرْخِ الشبابِ ، ومُقْتَبَلِ العُمْرِ ، ومَعْدِنِ العافيةِ ، فاغْتَنِمْ هذه الفرصةَ الغاليةَ ، لتنالَ رُتَبَ العلْمِ العاليةَ ؛ فإنها ( وقتُ جَمْعِ القلبِ ، واجتماعِ الفِكْرِ ) ؛ لقِلَّةِ الشواغِلِ والصوارِفِ عن التزاماتِ الحياةِ والتَّرَؤُّسِ ، ولِخِفَّةِ الظَّهْرِ والعِيالِ :
وإيَّاك وتأميرَ التسويفِ على نفسِك ؛ فلا تُسَوِّفْ لنفسِكَ بعدَ الفراغِ من كذا ؛ وبعدَ ( التقاعُدِ ) من العَمَلِ هذا ... وهكذا ، بل البِدارَ قبلَ أن يَصْدُقَ عليك قولُ أبي الطَّحَّانِ القَيْنيِّ :
وقال أُسامةُ بنُ مُنْقِذٍ :
فإن أَعْمَلْتَ البِدارَ فهذا شاهدٌ منك على أنك تَحْمِلُ ( كِبَرَ الهمَّةِ في العِلْمِ ) .

36-إجمامُ النفْسِ :
خُذْ من وَقْتِك سُويعاتٍ تُجِمُّ بها نفسَك في رِياضِ العِلْمِ من كُتُبِ المحاضراتِ ( الثقافةِ العامَّةِ ) ؛ فإنَّ القلوبَ يُرَوَّحُ عنها ساعةً فساعةً .
وفي المأثورِ عن أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ أنه قالَ : ( أَجِمُّوا هذه القلوبَ ، وابْتَغُوا لها طرائفَ الْحِكمةِ ، فإنها تَمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدانُ ) .
وقالُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى في حِكْمَةِ النهيِ عن التَّطَوُّعِ في مُطْلَقِ الأوقاتِ :( بل في النهيِ عنه بعضَ الأوقاتِ مصالِحُ أُخَرُ من إِجمامِ النفوسِ بعضَ الأوقاتِ ، من ثِقَلِ العِبادةِ ؛ كما يُجَمُّ بالنوْمِ وغيرِه ، ولهذا قالَ مُعاذٌ : إني لأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي ، كما أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي ... )
وقالَ : ( بل قد قيلَ : إنَّ من جُملةِ حِكمةِ النهيِ عن التَّطَوُّعِ المطلَقِ في بعضِ الأوقاتِ : إجمامَ النفوسِ في وَقْتِ النهيِ لتَنْشَطَ للصلاةِ ؛ فإنها تَنْبَسِطُ إلى ما كانت مَمنوعةً منه ، وتَنْشَطُ للصلاةِ بعدَ الراحةِ . واللهُ أَعْلَمُ ) اهـ .
ولهذا كانت العُطَلُ الأسبوعيَّةُ للطُّلَّابِ مُنتشِرَةً منذُ أَمَدٍ بعيدٍ ، وكان الأَغْلَبُ فيها يومَ الْجُمعةِ وعَصْرَ الخميسِ ، وعندَ بعضِهم يومَ الثلاثاءِ ويومَ الاثنينِ ، وفي عِيدَي الفطْرِ والأَضْحَى من يومٍ إلى ثلاثةِ أيَّامٍ وهكذا .
ونَجِدُ ذلك في كُتُبِ آدابِ التعليمِ ، وفي السِّيَرِ ، ومنه على سبيلِ الْمِثالِ : ( آدابُ المعَلِّمِينَ ) لسُحْنونٍ ( ص 104 ) ، ( والرسالةُ الْمُفَصَّلَةُ ) للقابسيِّ ( ص135-137 ) ، ( والشقائقُ النُّعْمانيَّةُ ) ( ص20) وعنه في : ( أَبْجَدِ العلومِ ) ( 1/195-196 ) ، وكتابِ ( أَلَيْسَ الصبْحُ بقريبٍ ) للطاهرِ ابنِ عاشورٍ ، ( وفتاوَى رَشيد رِضَا ) (1212) و( مُعْجَمِ البِلدانِ ) ( 3/102) و ( فتاوى شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ ) ( 25/318-320، 329)
37 – قراءةُ التصحيحِ والضبْطِ :
احْرِصْ على قِراءةِ التصحيحِ والضبْطِ على شيخٍ مُتْقِنٍ؛ لتأْمَنَ من التحريفِ والتصحيفِ والغلَطِ والوَهْمِ . وإذا اسْتَقْرَأْتَ تَراجمَ العُلماءِ – وبخاصَّةٍ الْحُفَّاظَ منهم – تَجِدُ عَددًا غيرَ قليلٍ مِمَّنْ جَرَّدَ المطَوَّلَاتِ في مجالِسَ أو أيَّامٍ قراءةَ ضَبْطٍ على شيخٍ مُتْقِنٍ .
فهذا الحافظُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَه اللهُ تعالى قَرَأَ ( صحيحَ البخاريِّ ) في عشرةِ مجالسَ ، كلُّ مجلِسٍ عشرُ ساعاتٍ ، ( وصحيحَ مسلِمٍ ) في أربعةِ مجالسَ في نحوِ يومينِ وشيءٍ من بُكْرَةِ النهارِ إلى الظهْرِ وانتهى ذلك في يومِ عَرَفَةَ ، وكان يومَ الجمُعَةِ سنةَ 813 هـ ، وقرأَ ( سُنَنَ ابنِ ماجهْ ) في أربعةِ مجالِسَ ، و ( مُعجَمَ الطبرانيِّ الصغيرَ ) في مَجلِسٍ واحدٍ ، بينَ صَلَاتَي الظهْرِ والعَصْرِ .
وشيخُه الفَيروزآباديُّ قَرَأَ في دِمَشْقَ ( صحيحَ مُسْلِمٍ ) على شيخِه ابنِ جَهْبَلَ قِراءةَ ضَبْطٍ في ثلاثةِ أيَّامٍ .
وللخطيبِ البَغدادىِّ والمؤتَمَنِ الساجيِّ ، وابنِ الأبَّارِ وغيرِهم في ذلك عجائبُ وغرائبُ يَطولُ ذِكْرُها، وانْظُرْها في ( السِّيَرِ ) للذهبيِّ 18/277 و 279، 19/310، 21/253 ) و ( طَبقاتِ الشافعيَّةِ ) للسُّبْكيِّ ( 4/30 ) ، و ( الجواهِرِ والدُّرَرِ ) للسَّخَاويِّ ( 1/103-105 ) ، و( فتْحِ الْمُغيثِ ) (2/46) و ( شَذَراتِ الذهَبِ ) ( 8/121و206 ) ، و ( خُلاصةِ الأثَرِ ) ( 1/72-73 ) ، و ( فِهْرِسِ الفهارِسِ ) للكَتَّانِيِّ ، و ( تاجِ العَروسِ ) ( 1/45-46 ) . فلا تَنْسَ حَظَّكَ من هذا .
38- جَرْدُ الْمُطَوَّلَاتِ :
الْجَرْدُ للمُطَوَّلاتِ من أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ ؛ لتَعَدُّدِ المعارِفِ ، وتوسيعِ الْمَدَارِكِ واستخراجِ مَكنونِها من الفوائدِ والفرائدِ ، والخبرةِ في مَظَانِّ الأبحاثِ والمسائلِ ، ومَعرِفَةِ طرائقِ الْمُصَنِّفِينَ في تآليفِهم واصطلاحِهم فيها .
وقد كان السالِفون يَكتبون عندَ وُقوفِهم : ( بَلَغَ ) حتى لا يَفوتَه شيءٌ عندَ الْمُعاوَدَةِ ، لا سيَّمَا مع طُولِ الزَّمَنِ .
39- حُسْنُ السؤالِ :
الْتَزِمْ أَدَبَ الْمُباحَثَةِ ، من حُسْنِ السؤالِ ، فالاستماعِ ، فصِحَّةِ الفَهْمِ للجَوابِ ، وإيَّاكَ إذا حَصَلَ الجوابُ أن تَقولَ : لكنَّ الشيخَ فلانًا قالَ لي كذا ، أو قالَ كذا ، فإنَّ هذا وَهَنٌ في الأَدَبِ ، وضَرْبٌ لأَهْلِ العِلْمِ بعضِهم ببعضٍ ، فاحْذَرْ هذا .
وإن كنتَ لا بُدَّ فاعلاً ، فكنْ واضحًا في السؤالِ ، وقل ما رأيُك في الفَتْوَى بكذا ، ولا تُسَمِّ أَحَدًا .
قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( وقيلَ : إذا جَلَسْتَ إلى عالِمٍ ؛ فسَلْ تَفَقُّهًا لا تَعَنُّتًا ) اهـ .
وقالَ أيضًا : ( وللعلْمِ سِتَّةُ مَراتِبَ ) .
أوَّلُها : حسْنُ السؤالِ .
الثانيةُ : حسْنُ الإنصاتِ والاستماعِ .
الثالثةُ : حسْنُ الْفَهْمِ .
الرابعةُ : الْحِفْظُ .
الخامسةُ : التعليمُ .
السادسةُ : وهي ثَمَرَتُه ؛ العمَلُ به ومُراعاةُ حُدودِه اهـ .
ثم أَخَذَ في بيانِها ببَحْثٍ مُهِمٍّ .
40- الْمُناظَرَةُ بلا مُمَارَاةٍ :
إيَّاكَ والْمُمَارَاةَ ؛ فإنها نِقْمَةٌ ، أمَّا المناظَرَةُ في الْحَقِّ ؛ فإنها نِعْمَةٌ إذ الْمُناظَرَةُ الْحَقَّةُ فيها إظهارُ الحقِّ على الباطلِ ، والراجِحِ على المرجوحِ ، فهي مَبْنِيَّةٌ على الْمُناصَحَةِ والْحِلْمِ ، ونَشْرِ العلْمِ ، أمَّا الْمُماراةُ في المحاوَرَاتِ والمناظَرَاتِ ؛ فإنها تَحَجُّجٌ ورِياءٌ ، ولَغَطٌ وكِبرياءُ ومُغالَبَةٌ ومِراءٌ ، واختيالٌ وشَحْنَاءُ ، ومُجاراةٌ للسفهاءِ ، فاحْذَرْها واحْذَرْ فاعِلَها ؛ تَسْلَمْ من المآثِمِ وهَتْكِ الْمَحارِمِ ، وأَعْرِضْ تَسْلَمْ وتَكْبُت الْمَأْثَمَ والْمَغْرَمَ .
41- مُذاكَرَةُ العِلْمِ :
تَمَتَّعْ مع البُصَرَاءِ بالْمُذاكَرَةِ والْمُطارَحَةِ ؛ فإنها في مَواطِنَ تَفوقُ الْمُطالَعَةَ وتَشْحَذُ الذهْنَ وتُقَوِّي الذاكرةَ ؛ مُلْتَزِمًا الإنصافَ والملاطَفَةَ مُبْتَعِدًا عن الْحَيْفِ والشَّغَبِ والمجازَفَةِ .
وكُنْ على حَذَرٍ ؛ فإنها تَكْشِفُ عُوارَ مَن لا يَصْدُقُ
فإن كانت مع قاصرٍ في العِلْمِ ، باردِ الذهْنِ ؛ فهي داءٌ ومُنافَرَةٌ ، وأمَّا مُذاكرَتُك مع نفسِك في تقليبِك لمسائِلِ العلْمِ ؛ فهذا ما لا يَسوغُ أن تَنْفَكَّ عنه .
وقد قيلَ : إحياءُ العِلْمِ مُذاكرَتُه .
42- طالبُ العلْمِ يَعيشُ بينَ الكتابِ والسُّنَّةِ وعلومِها :
فهما له كالْجَناحينِ للطائرِ ، فاحْذَرْ أن تكونَ مَهيضَ الْجَناحِ .
43-استكمالُ أدواتِ كلِّ فَنٍّ :
لن تكونَ طالبَ عِلْمٍ مُتْقِنًا مُتَفَنِّنًا – حتى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِياطِ – ما لم تَستكمِلْ أدواتِ ذلك الفَنِّ ، ففي الفِقْهِ بينَ الفقْهِ وأصولِه ، وفي الحديثِ بينَ عِلْمَي الروايةِ والدِّرايةِ .... وهكذا ، وإلا فلا تَتَعَنَّ .
قالَ اللهُ تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } فيُستفادُ منها أنَّ الطالِبَ لا يَتْرُكُ عِلْمًا حتى يُتْقِنَهُ .















رد مع اقتباس