الموضوع: شهر الله
عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 10-05-2015, 02:04 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,016


قصة موسى مع فرعون

إنَّ من القصص العجيب الذي أعاده الله في القرآن وثنَّاه قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، لكونها مشتملة على حكم عظيمة وعبر بالغة وعظات مؤثرة ، وفيها نبؤُه سبحانه مع المؤمنين والظالمين بإعزاز المؤمنين ونصرهم وإذلال الكافرين وخذلانهم { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:2-4] .

-قصة موسى عليه السلام تبدأ كما بدأت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام .. طفل يولد ويرمى في النهر، ذاك يرمى في البئر وهذا يرمى في النهر-
هـذا يـوم نجـى الله فيـه التوحيـد والطاعـة علـى الاسـتكبار والاسـتعلاء والتجبـر . نجـاة مـن غيـر عُـدة ولا عِـداد ولكـن بتوحيـد رب الأربـاب .
ففـي قصـة موسـى ـ عليه السلام ـ لأبلـغ عبـرة لمـن أراد النجـاة فـي الدنيـا والآخـرة . -

فلما أراد الله جل وعلا إنقاذ هذا الشعب من ظلم فرعون وطغيانه وتكبره وعدوانه أجرى من الأسباب العظيمة ما لم يشعر به فرعون ولا أولياؤه ولا أعداؤه ، حيث أمر سبحانه أمَّ موسى عليه السلام أن تضع وليدها موسى في تابوت مغلق ثم تلقيه في اليم ، ووعدها تبارك وتعالى بحفظه وبشَّرها بأنه سيردُّه إليها وأنه سيكْبرُ ويسْلم من كيدهم ، وأنه سبحانه سيجعله من المرسلين { وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] . ففعلت ما أُمرت به ، وساق الله هذا التابوت وبداخله موسى عليه السلام يتقاذفه الموج إلى أن وصل مكان قريب من فرعون وآله { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}[القصص:8]وفي هذا أن الحذر لا ينفع من القدر ، فإن الذي خاف منه فرعون وقتَّل أبناء بني إسرائيل لأجله قيَّض الله أن ينشأ في بيت فرعون ويتربى تحت يده وعلى نظره وفي كفالته . ومن لطف الله بموسى وأمه أن منعه من قبول الرضاعة من ثدي أي امرأة ، فأخرجوه إلى السوق لعلهم يجدون من يقبل منها الرضاع ، فجاءت أخته وهو بتلك الحال {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]فاشتملت مقالتها هذه على الترغيب في أهل هذا البيت وبيان ما هم عليه من تمام الحفظ وحسن الكفالة { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:13] .ولما بلغ عليه السلام أشده واستوى آتاه الله حُكماً وعلْما ؛ حُكماً يعرف به الأحكام الشرعية والفصل بين الناس، وعلماً كثيرا . ثم جرت أحداث منها قتل موسى عليه السلام للقبطي ، وتشاور ملأ فرعون مع فرعون على قتله واجتمع رأيهم على ذلك ، ويبلغ موسى الخبر فيخرج من مصر { خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] ودعا الله {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص:21] .وأكرمه الله جل وعلا في رحلته تلك بالتزوج من امرأة صالحة ، ثمَّ إنه سبحانه أكرمه بأعظم كرامة وحباه بأعظم نعمة فجعله من المرسلين { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144].وأيَّده تبارك وتعالى بالحجج الباهرة والبراهين الظاهرة { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32] . ويأمره تبارك وتعالى بالتوجُّه إلى فرعون لدعوته ، وأمَره أن يقول له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى . ويطلب موسى من الله أن يعينه على ما حمله وأن يسدِّده فيما وكل إليه { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:33-34] . فأجابه الله فيما سأل { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35] .ويأتي الأمر الإلهي إلى موسى وأخيه عليهما السلام لإنفاذ هذه المهمة وأداء هذا المطلب العظيم { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:42-48] . ويتوجَّه موسى وأخوه هارون عليهما السلام بكل شجاعة وقوة وثبات لتبليغ رسالة الله وتنفيذ أمره سبحانه .لقد أرسل الله موسى عليه السلام بالآيات والسلطان المبين إلى فرعون الذي تكبر على الملأ وقال أنا ربكم الأعلى، فجاءه موسى بالآيات البينات ودعاه إلى توحيد رب الأرض والسماوات ، فقال فرعون منكراً وجاحداً : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]فأنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات وكان له آية في كل شيء من المخلوقات ،
فأجابه موسى { قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] . ففي السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب الإيقان للموقنين
فقال فرعون لمن حوله ساخراً ومستهزئاً بموسى : { أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] ، فذكَّره موسى بأصله وأنه مخلوق من العدم وصائر إلى العدم كما عُدم آباؤه الأولون فقال موسى {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:26] ، وحينئذ بهت فرعون فادَّعى دعوى المكابر المغبون فقال : {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27] ، فطعن بالرسول والمرسِل ، فردَّ عليه موسى ذلك وبيَّن له أن الجنون إنما هو إنكار الخالق العظيم فقال : { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [الشعراء:28] . فلما عجز فرعون عن ردِّ الحق لجأ إلى التهديد والتوعد بالسجن فقال : {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]. وما زال موسى يأتي بالآيات كالشمس وفرعونُ يحاول بكل جهده ودعاياته أن يقضي عليها بالرد والطمس حتى قال لقومه : { يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}
*

الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
هنا
فلما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم متابعة ِلمَلِكِهم الطاغية فرعون ؛ ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمِه موسى بن عمران عليه السلام وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون ولا ينزعون ولا يرجعون .
لقد تمادى فرعون في سطوته وجبروته وكفره وطغيانه يفتن قومه عن الدين الحق قال الله تعالى مخبرا عن فرعون وكفى بالله شهيداً "
وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ }يونس83 أي جبار عنيد مستعل بغير الحق "وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ" أي في جميع أموره وشئونه وأحواله .
ولما بلغ به الأمر مبلغه حتى اعتبر نفسه إلهاً معبوداً ، وهنا لما يبلغ الكفر مبلغه والطغيان منتهاه ويظن الرسل يأتيهم نصر الله ،
ولقد كانت أول معالم ذلك النصر اجتماع موسى عليه السلام بأتباعه يوصيهم ويثبتهم ويرشدهم ،ويربطهم بفاطر الأرض والسماء "وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ" يونس84 ويأتي الجواب مطمئنا ً لموسى عليه السلام ممن تربوا في هذه المدرسة النبوية فقالوا "فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "يونس85 أمرهم بالتوكل على الله والاستعانة به والالتجاء إليه فأتمَرُوا بذلك ؛فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا .
ويأتي الثاني من معالم النصر بشرى الله لهم "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ "يونس87
فقد أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يتخذوا لقومهما بيوتاً متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط ليكونوا على أهبة في الرحيل إذا أمروا به ليعرف بعضهم بيوت بعض ، وفي هذا العمل تأكيد على مبدأ فعل الأسباب وأنه ينبغي أن يقرن بالتوكل على الله تعالى .
ثم إن الله قد أمرهم "وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً" قيل مساجد وقيل معناه كثرة الصلاة فيها قاله مجاهد وغيره ومعناه على هذا الاستعانة على ما هم فيه من الضر والشدة والضيق بكثرة الصلاة كما قال تعالى "
وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ... }البقرة45 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع للصلاة فالصلاة لها من الآثار الدنيوية والأخروية الشيء الكثير .
وتتالى الأيام وموسى عليه السلام ومن معه يكسوهم الصبر ويحليهم الإيمان بالله والتوكل عليه ويزينهم الصلة بالله والاستعانة بالصلاة ، وهناك في الطرف الآخر فرعون ومن معه في غيهم يعمهون وعن الحق معرضين يعاندون ويتمردون .
وتقرب لحظات النصر ، "
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ "يونس88 إنه دعاء من قلب صادق متوكل على الله ، دعاء لنصرة الحق ودحر الباطل إنها دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون غضباً لله عليه لتكبره عن اتباع الحق وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده واستمراره على الباطل ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي والبرهان القطعي وتأتي الإجابة من القريب المجيب سبحانه وتعالى "قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }يونس89 ) [ والتثنية هنا كما قرر أهل العلم لأن هارون عليه السلام كان يؤمِّن على دعاء أخيه فأصبح المؤمِّن بمنزلة الداعي ]
"فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ" ويأتي الإذن من الله لموسى عليه السلام ليسير ومن اتبعه إلى الشام خارجين من مصر ، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق واشتد غضبه عليهم وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقوا بموسى عليه السلام ومن معه ، وماأجمل القرآن الكريم وهو يصور لنا هذه الأحداث في منظر بديع وتصوير أخاذ قال الله ومن أصدق من الله قيلاً :
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ{52} فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ{53} إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ{54} وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ{55} وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ{56} فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{57} وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ{58} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ{59} فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ{60} الشعراء
قال علماء التفسير : لما ركب فرعون في جنوده طالباً بني إسرائيل كان في جيش كثيف عرمرم حتى قيل كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف فالله أعلم .
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود فادركهم عند شروق الشمس وتراءى الجمعان ولم يبق ثم ريب ولا لبس ، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون "
فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ{61}وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة وفرعون قد غالقهم وواجههم وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وهم منه في غاية الخوف والذعر لمِا قاسوا في سلطانه من الإهانة والمنكر فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه فقال لهم الرسول الصادق المصدوق" قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ{62} (
كَلَّا ) .. يالها من كلمة قوية مدوية ، ثبات وثقة بوعد الله وموعوده ، حتى في أحلك الظروف ولك أن تتخيل الموقف أكثر ، موسى عليه السلام ومن معه محاصرون البحر أمامهم والعدو الحاقد خلفهم ، والوقت يمضي والعدو يقرب من مناله .
فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتد الأمر واقترب فرعون وجنوده في جدهم وحدهم وحديدهم وغضبهم هناك تنزل الوحي على موسى عليه السلام "
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ{63} نعم لقد تحول البحر إلى يابس حَوَّله منْ يقول للشيء كن فيكون .
فلما آل أمر البحر إلى هذه الحال بإذن الرب العظيم الشديد المحال؛ أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ويهدي قلوب المؤمنين فلما جاوزوه وجاوزه وخرج آخرهم منه وانفصلوا عنه كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ووفودهم عليه فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه ولا سبيل عليه فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال "
وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ }الدخان24 أي ساكناً على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة ، فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون فرأى ما رأى وعاين ما عاين هاله هذا المنظر العظيم وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم فأحجم ولم يتقدم وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم لكنه أظهر لجنوده تجلداً وعاملهم معاملة العدا وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه وعلى باطله تابعوه : أنظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي الخارجين عن طاعتي وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ويرجو أن ينجو وهيهات ويقدم تارة ويحجم فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين فحصلوا في البحر أجمعين حتى هم أولهم بالخروج منه عند ذلك ؛ارتد عليهم البحر كما كان فلم ينج منهم إنسان قال الله تعالى "وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ{65} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ{66} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ{67} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ{68 الشعراء
إن في إنجاء الله لأولياءه فلم يغرق منهم أحد وإغراقه لأعداءه فلم يخلص منهم أحد آية عظيمة وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة وصدق رسوله عليه السلام فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة والمناهج المستقيمة
ولما رأى فرعون الحقيقة وأدركه الغرق "
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }يونس90 وهيهات "آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }يونس91 ويأتي الحكم من الله "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }يونس92.

وانتهت أحداث ذلك اليوم العظيم – كما سماه رسولنا صلى الله عليه وسلم .
*قـال البخـاري فـي صحيحـه :
حدثنـا عَلِـيُّ بـن عبـدِ اللهِ ، قـال : حدثنـا سُـفيانُ ، قـال : حدثنـا أيُّـوبُ السَّـخْتِيَانِيُّ ، عـن ابـن سـعيد بـن جُبيـرِ ، عـن أبيـهِ ، عـن ابـن عبـاسِ ـ رضي الله عنهما ـ أن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمـا قَـدِمَ المدينـة وجدهُـم يصومـون يومًـا يعنـي عاشـوراء فقالـوا هـذا يـومٌ عظيـم وهـو يـومُ نَجَّـى اللهُ فيـهِ موسـى وأغـرق آل فِرعـونَ فصـام موسـى شُـكرًا للهِ ، فقـال : " أنـا أولـى بموسـى منهُـم فصامَـهُ وأمَـرَ بصيامِـهِ " .
صحيح البخاري / ( 60 ) ـ كتاب : أحاديث الأنبياء / ( 23 ) ـ باب : قول الله تعالى " وهل أتاك حديث موسى " " وكلم الله موسى تكليمًا / حديث رقم : 3397 / ص : 401 .

شبكة السنة النبوية وعلومها

التعديل الأخير تم بواسطة أم أبي التراب ; 10-07-2015 الساعة 03:40 AM
رد مع اقتباس