عرض مشاركة واحدة
  #46  
قديم 01-21-2021, 03:16 AM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
مشرفة قسم الحديث
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 2,649
افتراضي

وإذا رأوا مصالحهم تتوقف على الاستعداد بالفنون الحديثة والاختراعات الباهرة، سعوا لذلك بحسب اقتدارهم، ولم يملكهم اليأس والاتكال على غيرهم الملقي إلى التهلكة، وإذا عرفوا- وقد عرفوا- أن السعي لاتفاق الكلمة وتوحيد الأمة هو الطريق الأقوم للقوة المعنوية جدوا في هذا واجتهدوا، وإذا رأوا المصلحة في المقاومة والمهاجمة أو في المسالمة والمدافعة بحسب الإمكان، سلكوا ما تعينت مصلحته فيقدمون في موضع الإقدام، ويحجمون في موضع الإحجام، وبالجملة لا يدعون مصلحة داخلية ولا خارجية، دقيقة ولا جليلة إلا تشاوروا فيها، وفي طريق تحصيلها وتنميتها، ودفع ما يضادها وينقصها.
فهذا النظام العجيب الذي أرشدهم إليه القرآن: هو النظام الذي يصلح لكل زمان ومكان، ولكل أمة. ومن ذلك قوله في سورة الأنفال:*{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}*[الأنفال: من الآية 60]، فهذه الآية تصرح بوجوب الاستعداد للأعداء بكل ما نستطيعه من قوة عقلية، ومعنوية ومادية، مما لا يمكن حصر أفراده، وفي كل وقت يتعين سلوك ما يلائم ذلك الوقت ويناسبه ومن ذلك قوله:*{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}*[النساء: من الآية 71]، ونحوها من الآيات التي أرشد الله فيها إلى شدة التحرز من الأعداء، فكل طريق وسبب يتحرز به من الأعداء فإنه داخل في هذا، ولكل وقت لبوسه، ومن عجيب ما نبه إليه القرآن من النظام الوحيد، أن الله عاتب المؤمنين بقوله:*{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}*[آل عمران: 144]، فأرشد عباده إلى أنه ينبغي أن يكونوا بحالة من الحكمة واستقامة الأمور على طريقها، بحيث لا يزعزعهم عنها فَقْدُ رئيس وإن عظم.
وما يكون ذلك إلا بأن يستعدوا لكل أمر من أمورهم الدينية والدنيوية بعدة أناس، إذا فقد أحدهم قام مقامه غيره، وأن تكون الأمة متوحدة في إرادتها وعزمها ومقاصدها وجميع شئونها. قصدهم جميعاً أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تقوم جميع الأمور بحسب قدرتهم.
وقال تعالى:*{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}*[التغابن: 16]، أي: اتقوا غضبه وعقابه بالقيام بما أمر به من كل ما فيه الخير والصلاح لكم جماعة ومنفردين، فكل مصلحة أمر الله بها وهي متوقفة في حصولها أو في كمالها على أمر من الأمور السابقة واللاحقة، فإنه يجب تحصيلها بحسب الاستطاعة. فلا يكلفهم الله ما لا يطيقون. وكذلك كل مفسدة ومضرة لا يمكن اجتنابها إلا بسلوك بعض الطرق السابقة واللاحقة فإنها داخلة في تقوى الله تعالى، وذلك بأسبابها، لازم الحق حق، والوسائل لها أحكام المقاصد.
كذلك كل ما نهاهم عنه، فإنه أعطاهم من القوى والأسباب ما يمكنهم من البعد عنه ومن الحلال ما يستغنون به. ومن الآيات الجامعة في السياسة قوله تعالى:*{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}*[النساء: 58]، والآية التي بعدها.
فالأمانات يدخل فيها أشياء كثيرة، من أجَلَّها: الولايات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، الدينية والدنيوية. فقد أمر الله أن تؤدى الأمانات إلى أهلها بأن يجعل فيها الأكْفاء لها، وكل ولاية لها أكْفاء مخصوصون. فهذا الطريق الذي أمر الله به في الولايات من أصلح الطرق لصلاح جميع الأحوال، فإن صلاح الأمور بصلاح المتولين والرؤساء فيها والمدبرين لها والعاملين عليها، فيجب تولية الأمثل فالأمثل:*{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}*[القصص: 26].
فصلاح المتولين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة وضده بضده.
ثم أرشدهم الله إلى الحكم بين الناس بالعدل الذي ما قامت السموات والأرض إلا به، فالعدل قوام الأمور وروحها، وبفقده تفسد الأمور كلها ويختل الميزان لكل شيء.
والحكم بالعدل من لازمه معرفة العدل في كل أمر من الأمور، فإن فهمت الأمة حقيقة العدل وعرفت حدوده وضعت كل شيء في موضعه، وكان المتولون للولايات هم الكمل من الرجال والأكْفاء للأعمال فَجَرَتْ تدابيرهم وأفعالهم على العدل والسداد، متجنبين للظلم والفساد، ترقت الأمة وصَلَحت أحوالها، وتمام ذلك في الآية الأخرى التي أمر الله فيها بطاعة ولاة الأمور بقوله:*{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}*[النساء: 59]، فهل يوجد أكمل وأغنى من هذه السياسة الحكيمة الرشيدة التي عواقبها أحمد العواقب؟.
يتبع.
🔁🔁🔁🔁🔁
رد مع اقتباس