عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-05-2012, 07:17 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,030
افتراضي


يقول " كنت عند سعيد بن جبير " أي في مجلس ، وسعيد كذلك من أجلَّة
التابعين وعلية العلماء المحققين ، فاستهل سعيد هذا المجلس المبارك بقوله :
" أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة " ؛ والكوكب هو الشهاب الذي
ترُجم به الشياطين حين يحاولون استراق السمع من السماء ، كما قال
تعالى { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ
مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا
وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
}
[الصافات:6-10] .

وقوله " انقض البارحة " : أي سقط من السماء ، والبارحة هي أقرب ليلة مضت ،
ومراده الليلة التي سبقت اليوم الذي عقدوا فيه هذا المجلس .
ومن المعلوم أن من كان مستيقظاً في ذاك الوقت سيتنبه في الغالب لهذه
الآية العظيمة الدالة على كمال قدرة الله عز وجل ، والله يقول :
{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}
[الإسراء:59] ،
والسلف رحمهم الله يستشعرون هذا المعنى ويتذاكرونه ويذكرون به عظمة الله
وكمال قدرته سبحانه ، بخلاف من ليس على طريقتهم ممن يرى أنها أمور طبيعية
وظواهر كونية فلا تؤثر فيهم ولا يبالون بها ولا يكترثون .

قال حصين : " فقلت أنا " أي أنا رأيته .

ثم استدرك حصين رحمه الله وقال : " ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة " ؛
قال ذلك بُعداً عن الرياء ومن أن يُحمد بما لم يفعله تلك الليلة ؛ وهذا يبيِّن لنا
الحياة الجميلة التي كانوا يعيشونها في لياليهم ، بحيث إنَّ الذي يكون مستيقظاً
في الليل لا يظنُّ فيه إلا أنه في صلاة ، بينما في وقتنا الحاضر من يكون مستيقظاً
في الليل فثمة أمور تشغله بسبب ما نعيشه من تحول في الحياة بسبب الإضاءة
والإنارة التي جعلت الليل شبيهاً بالنهار ، بل لم نعُد نرى بسبب قوة الإضاءة
وكثرتها في البيوت والطرقات الكواكب والنجوم وجمال السماء وزينتها ،
مما أدى بكثير من الناس إلى تحول عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها حيث
جعل لهم الليل لباساً ينامون فيه ويهدؤون ويسكنون والنهار معاشاً يسعون
فيه في تحصيل أرزاقهم وجلب مصالحهم . نعم كان مستغرباً في حياتهم أن
يقوم المسلم في الليل في غير صلاة ، ولهذا قال " أما إني لم أكن في صلاة
"
إذ الأذهان في وقتهم لا تذهب إلا إلى هذا ولا تظن إلا هذا الظن .

إذاً ماذا كنت تفعل في تلك الساعة ما دمت لم تكن في صلاة ؟ سؤال يطرح
نفسه في هذا المقام ، وأجاب عنه حصين دون أن يُسأل فقال : " ولكني لُدغت " ؛
السبب الذي كان من أجله مستيقظاً تلك الساعة هو أنه لُدغ أي لدغته عقرب
فكان متأذِّياً من سمِّها متألماً من لدغتها منشغلاً بهذا الأمر ، واللدغة تؤذي الملدوغ
وتتعبه وتؤلمه فلا يتمكن بسببها من الراحة ولا يهنأ بنوم ، ولأجل ذلك رأى
الكوكب فلم يكن نائماً ولا كان مصلياً وإنما كان مشغولاً بهذه اللدغة التي
أصابته تلك الليلة فأرقته وآلمته .

قال له سعيد : " فما صنعت ؟ " وهذا سؤال طبيعي جداً في مثل هذا المقام أن
يقال ما صنعت ؟ أو بمَ تعالجت؟ أو كيف فعلت ؟ أو بأيِّ شيء تداويت ؟
وهو في الوقت نفسه يتضمن المواساة والاطمئنان وقوة العاطفة وتحرك المشاعر
تجاه من أصيب ، بل قد تقوى المشاعر في مثل هذا المقام لدى بعض الناس
فتكثر منه الأسئلة التي ترهق المصاب وتزعجه ، ولربما صاحَبَ ذلك لدى بعض
الناس فضولاً لا ثمرة من وراءه ، فيسأل المصاب عن تفاصيل دقيقة تتعلق بالحدث
الذي أصابه كأن يقول البعض في مثل هذا الموقف : ما لون العقرب ؟ ومن أين
خرجت ؟ وما حجمها ؟ ونحو ذلك من الأسئلة ، فيتحوَّل المجلس إلى حديث
عوام لا فائدة فيه ، فأي فائدة في السؤال عن العقرب المعتدية والإعراض عن
حال المصاب بِسُمِّها المتأذي من لدغتها !!
.

قال حصين : " استرقيت " أي : الذي فعلته وصنعته عندما لدغتني العقرب
هو : أني استرقيت لنفسي بالقرآن والذكر المأثور .

فقال له سعيد : " فما حملك على ذلك ؟ " وهذه رغبة من سعيد في معرفة الدليل
الذي استند عليه حصين في هذا العمل ، وهو من كمال حرص السلف رحمهم
الله وعنايتهم بمعرفة الدليل ، بخلاف حال الكثير من الناس حيث يزعجهم السؤال
عن الدليل ، بل لم يجد سعيد رحمه الله أي حرج في سؤاله في هذا المقام عن الدليل
على ما فعل ، وقد يستكثر بعض الناس مثل هذا السؤال فيقول :
الرجل مصاب ومتأذٍ بالسُّم وأنت تقول له الدليل !! ولربما قال بعضهم :
وهل هذا وقته ؟! بينما الأمر عند السلف طبيعي جداً ومألوف ومعتاد .

قال حصين : " حديث حدثناه الشعبي " أي الدليل على ما صنعت حديث
حدثناه الشعبي .

قال سعيد : " وما حدثكم ؟ " أي اذكر لنا الحديث الذي حدَّثكم به الشعبي ،
وهذا كله من تمام الحرص وكمال العناية بمعرفة الدليل .

قال حصين : " حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة " ؛
وهو حديث ظاهر الدلالة على المقصود . والعين : هي إصابة العائن غيره بعينه ،
والحمه : هي لدغة العقرب وذوات السموم .
وليس المراد حصر جواز الرقية في هذين فقط ، وإنما المراد لا رقية أشفى وأولى
من رقية العين والحمة ، والحمة كما عرفنا هي لدغة العقرب ، وقد أحسن
حصين رحمه الله عندما رقى نفسه عملاً بهذا الحديث واستناداً إلى هذا الدليل .

ولهذا قال له سعيد : " قد أحسن من انتهى إلى ما سمع " أي أحسنتَ في صنيعك
وأصبتَ في عملك حيث بنيْته على الدليل وأقمته على السنة ، فأنت بلغك
الدليل وعملت به فأحسنت بهذا الصنيع ،
إذ الناس في هذا الباب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

رد مع اقتباس