عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-23-2017, 03:19 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,016
y

إنه شهرٌ يحمل خيراتٍ عظام وبركاتٍ جسام ومننٍ لاتعد ، بما شرَّف الله سبحانه وتعالى به هذا الشهر وبما خصه به من خصائص وبركات تبدأ من أول ليلة من لياليه . روى الترمذي في جامعه وغيرُه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ"
الراوي : أبو هريرة | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترمذي-الصفحة أو الرقم: 682 | خلاصة حكم المحدث : صحيح. انظر شرح الحديث رقم 40808 . الدرر .
الشرح
أنعَم اللهُ عزَّ وجلَّ على عِبادِه بمَواسِمَ مِن الخيراتِ يَحصُلون فيها بسَببِ الأعمالِ الصَّالحةِ القليلةِ على الثَّوابِ الكثيرِ مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومِن نِعَمِه سُبحانَه أيضًا أنْ سَخَّر الله لهم مِن الأسبابِ ما يُعينُهم على أدائِها على الوجْهِ الأكمَلِ لها.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أبو هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال: "إذا كانَت أوَّلُ ليلةٍ مِن رمَضانَ"، أي: إنَّه مَع بَدْءِ شهرِ رمَضانَ تَحدُثُ علاماتٌ على دُخولِه، ونِعم مِن اللهِ لعِبادِه؛ فأُولى هذه العلاماتِ والنِّعم هي ما جاء في قولِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "صُفِّدتِ الشَّياطينُ"، أي: شُدَّتْ عليهِم الأغلالُ والسَّلاسِلُ، "ومَردةُ الجِنِّ"، وكذلك تُشَدُّ الأغلالُ والسَّلاسِلُ على مرَدَةِ الجِنِّ، وهم رُؤساءُ الشَّياطينِ المتجرِّدون للشَّرِّ، أو هم العُتاةُ الشِّدادُ مِن الجِنِّ، والحِكمةُ في تَغْليلِهم حتَّى لا يَعمَلوا بالوَساوِسِ للصَّائِمين ويُفسِدوا عليهم صَومَهم، وقيل: يَعْني كَثرةَ الأجرِ والثَّوابِ والمغفرةِ بأن يَقِلَّ إضلالُ مرَدةِ الشَّياطينِ للمُسلِمين، فتَصيرَ الشَّياطينُ كأنَّها مُسلسَلةٌ عن الإغواءِ والوَسوَسةِ. وقيل: إنَّ الشَّياطينَ إنَّما تُغَلُّ عن الَّذين يَعرِفون حَقَّ الصِّيامِ المعظِّمين له، ويَقومون به على وَجهِه الأكمَلِ، ويُحقِّقون شُروطَه وأخلاقَه وآدابَه، أمَّا الَّذي امتنَع عن الطَّعامِ والشَّرابِ، ولم يَعرِفْ للصِّيامِ حَقَّه، ولم يَأتِ بآدابِه على وجهِ التَّمامِ، فليس ذلك بأهلٍ لِتُغَلَّ الشَّياطينُ عنه؛ فيكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء ولناس دون ناس. ويَحتمِلُ أن يَكونَ المرادُ: أنَّ الشَّياطينَ لا يَخلُصون مِن افتِتانِ المسلِمين إلى ما يَخلُصون إليه في غيرِ شهرِ رمَضانَ؛ لاشتِغالِهم بالصِّيامِ الَّذي فيه قَمعُ الشَّهواتِ، وبقِراءةِ القرآنِ والذِّكرِ.
والهديَّةُ الثَّانيةُ: "وغُلِّقَت أبَوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ، وفُتِّحَت أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ"، وهذا كالتَّأكيدِ لِمَا سبَق مِن أنَّ غَلْقَ أبوابِ النَّارِ هي مَزيدٌ لِغَلقِ كلِّ مَسلَكٍ مِن مَسالِكِ الشَّرِّ، وأنَّ فَتْحَ أبوابِ الجنَّةِ هو مَزيدٌ لفَتحِ كلِّ مَسلَكٍ مِن مَسالِكِ الخيرِ، وقيل: الفتحُ والغلقُ المَذْكورانِ هما على الحَقيقةِ؛ إكْرامًا مِن اللهِ لعِبادِه في هذا الشَّهرِ.
والهديَّةُ الثَّالثةُ: "ونادى مُنادٍ"، أي: مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ: "يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ"، أي: إنَّ هذا الشَّهرَ يُرغِّبُ في أعمالِ الخيرِ وخاصَّةً عِندَ أصحابِها؛ لِمَا فيه مِن الأسبابِ الَّتي تُعينُه على ذلك؛ فأقبِلوا على اللهِ وعلى طاعتِه، "ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ"، أي: أمسِكْ عنه وامتَنِعْ؛ فإنَّه وقتٌ تَرِقُّ فيه القلوبُ للتَّوبةِ.
والهديَّةُ الرَّابعةُ: "وللهِ عُتَقاءُ مِنَ النَّارِ"، أي: وللهِ عُتقاءُ كَثيرونَ مِن النَّارِ؛ فلْيَحرِصْ كلُّ لَبيبٍ على أنْ يَكونَ مِن زُمرَتِهم، "وذلِك في كلِّ ليلةٍ"، أي: وإنَّ مِن مَزيدِ رَحمةِ اللهِ لعبادِه أن يُعتِقَ مِن النَّارِ عِبادًا له في كلِّ ليلةٍ مِن لَيالي رمَضانَ، وهذا لِلحَضِّ على الاجتِهادِ في هذا الشَّهرِ الفَضيلِ؛ حتَّى يَكونَ العبدُ مِن هؤلاءِ العُتَقاءِ، ويُرزَقَ النجاةَ مِن النِّيرانِ، والفوزَ بالجِنانِ.
وفي الحديثِ: الحثُّ على اغتِنامِ أوقاتِ الفَضلِ والخيرِ بعَملِ الطَّاعاتِ والبُعْدِ عَن المنكَراتِ.
وفيه: إثباتُ الجنَّةِ والنَّارِ، وأنَّهما الآنَ موجودَتانِ، وأنَّ لهما أبوابًا تُفتَحُ، وتُغلَقُ.
وفيه: بيانُ عظَمةِ لُطفِ اللهِ تعالى، وكَثرةِ كرَمِه وإحسانِه على عبادِه، حيث يَحفَظُ لهم صِيامَهم، ويَدفَعُ عنهم أذَى المرَدَةِ مِن الشَّياطينِ. الدرر .


فانظر -رعاك الله- هذه البركات العظيمة والخيرات العميمة التي خُصَّ بها هذا الشهر المبارك .
-يا عباد الله- لا يليق بمؤمن ولا يصح من مسلم يدرك هذه الفضائل العظام والخيرات الكثيرة ولا يهيئ نفسه لاغتنامها ولا يرتب أوقاته لتحصيلها والفوز بها ؛ ولهذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه ونحن بين يدي استقبال رمضان :«كيف نغْنم شهر رمضان؟»
ولعلِّي -أيها العباد-أذكِّر بأمور معينة وأسبابٍ مساعدة لمن وفقه الله سبحانه وتعالى لتأملها والعمل بها ، فإن فيها معونة لاغتنام رمضان وانتهاز هذا الموسم العظيم المبارك .
v وأول ذلك أيها العباد : الإقبال على الله بالدعاء؛ فإن الدعاء مفتاح كل خير في الدنيا والآخرة ، إذ إنَّ الخيرات كلها بيد الله جل في علاه ، فهو المعطي المانع ، القابض الباسط ، المعِز المذل ، الذي بيده أزمة الأمور ، فلا خيرات ولا حسنات إلا من فضله وبمنِّه وعطائه ؛ فليقبِل كل عبدٍ ناصح لنفسه على الله بالدعاء أن يغنِّمه شهر رمضان وأن يوفقه لحسن اغتنامه ، وليلحَّ على الله بالدعاء فإن الله عز وجل لا يخيب عبدًا دعاه ولا يرد مؤمنًا ناجاه وهو القائل جل في علاه " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ "غافر:60 .
v أيها المؤمنون : ومن الأمور المعينة أن يهيئ كلَّ عبدٍ نفسه لحسن الصيام ، فإنَّ "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" ، ولهذا فإن الصيام ذاته يحتاج إلى حفظ وعناية ورعاية ، وإن أعظم الناس أجرًا في الصيامأكثرهم لله ذكرًا فيه . وكما أن العبد مطلوبٌ منه أن يُعنى بتكميل صيامه ذكرًا لله ودعاءً ومناجاة وتلاوة للقرآن فإن عليه في الوقت نفسه أن يحفظ صيامه من القوادح والمنقِصات ، فإنه -يا عباد الله- ليس كل الصيام تعلو به الدرجات وتُنال به الفضائل والخيرات ، فقد جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنهأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ " ؛ ولهذا لابد من تهيئةٍ للنفس لأن يكمِّل المرء صيامه ولِيحفظ صيامه ليفوز بالخيرات العظام وليفوز بالغفران .
v أيها المؤمنون : ومن الأمور المعينة أن يستشعر العبد أن موسم رمضان موسم غفرانٍ للذنوب ، موسم عتق من النار ، نعم -يا عباد الله- إنَّ لله سبحانه وتعالى في كل ليلة من ليالي رمضان عتقاء من النار ، نعم -عباد الله- عبادٌ تُعتق رقابهم من النار في كل ليلة من ليالي رمضان ، نعم -عباد الله- لابد أن تتشوَّف نفوسنا لذلك وأن تتوق قلوبنا لتحصيل ما هنالك لنكون من أهل العتق من النار ؛ بتهيئة الأسباب وإعداد العدد ، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ"إنها مصيبة عظمى وبليَّة كبرى أن يدخل هذا الشهر العظيم بخيراته وبركاته وما فيه من الرضوان والغفران ثم يخرج دون أن يحصِّل فيه العبد هذا الخير العظيم والفضل العميم .
v أيها المؤمنون : ومن الأمور المهمة في هذا الباب أن يروِّض العبد نفسه في رمضان على حُسن القيام في لياليه المباركات جماعةً مع المسلمين في المساجد يقوم مع إمامه حتى ينصرف ، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، ويقول عليه الصلاة والسلام "مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ" .
v أيها المؤمنون : وليحذر العبد الناصح لنفسه الحريص على سعادتها وفوزها من قواطع الطريق ومعوقات السير ، فإن أعداء الله جل وعلا وحملة الرذيلة يدأبون دأبًا شديدًا على تفويت الناس خيرات رمضان وبركاته ، ولاسيما من خلال البرامج المعدَّة مسبقا من أفلامٍ هابطة ومسلسلاتٍ دنيئة وأمورٍ متعددة يضعونها عثرةً في طريق الصائمين وعقبةً تحول بين كثير منهم وبين تحصيل بركات الصيام وخيراته العظام ، حتى إن بعض هؤلاء ليدعو إلى برامجه السيئة على مائدة الإفطار ليكون من ينتمي إليه ويصغي إلى ما ينشر ويبُث مفطرًا على هذه الآثام أعاذنا الله سبحانه وتعالى جميعًا من ذلك ، وحمانا وذرياتنا وحفظ لنا صيامنا وقيامنا .
v أيها المؤمنون : ومن الأمور العظيمة في هذا الباب ؛ العناية في رمضان بالقرآن ، فإن لرمضان خصوصية عظمى بذلك ، بل إنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن"شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ"البقرة؛ ولهذا أيها العباد ينبغي للمؤمن أن يرتب لنفسه وظيفةً مستمرة في أيام رمضان مع كتاب الله عز وجل قراءةً وتدبرًا ومجاهدةً للنفس على تحقيق هدايات القرآن ، قال الله تبارك وتعالى" إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ "الإسراء:9. وقال تعالى"كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"ص:29.

التعديل الأخير تم بواسطة أم أبي التراب ; 06-17-2017 الساعة 01:48 PM
رد مع اقتباس