عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 11-29-2016, 09:25 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,023
Haedphone

المجـلـس الثامن
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
حقيقة الزهد والورع
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه .
الزهــد
الزهد: هـو ترك مالا ينفـع في الآخرة، والورع: ترك ما تخاف ضـرره في الآخرة. وهـذه العبارة من أحسـن ما قيـل في الزهـد والـورع وأجـمعـها. اهـ.مدارج السالكين 2 / 10 .5.

وبالتأمل في هذين التعريفين للزهد والورع وبالتدقيق في مدلولهما نخرج بالفوائد التالية:
* أن مقام الزهد أعلى من مقام الورع، لأن الزاهد لاتراه إلا محاسبًا لنفسه شحيحًا بوقته ،لا يضيع عمرَهُ في شيء لا يقربه إلى الله عز وجل ولا ينفعه في الآخرة، وإنما ينظر إلى ما يقوله ويفعله؛ فإن كان مما ينفعه عند الله عز وجل أخذ به وعلق همته به؛ وإن كان لا يرجو نفعه في الآخرة زهد به وتركه ولو لم يكن منه ضرر في الآخرة، ولا يعني هذا أن الزاهد لا يتمتع بالمباحات بل إنه يتـمتع بها من غير توسع وينوي بها التقوِّي على طاعة الله عز وجل وبهذا تنفعه في الآخرة.
*أما الورع فصاحبه يتجنب ما يخاف ضررَه في الآخرة ؛ فإذا خلا من الضرر فقد يأخذ به ولو لم ينتفع به في الآخرة، أي أنه يتجنب الحرام وشبهه ويفعل الواجب وشبهه، وما سوى ذلك فهو متوسع فيه تَرْكًا أو فِعْلاً من دون استحضار نية التعبد بذلك.
وهذا مقام رفيع لكنه دون مقام الزهد.
وبذلك نستطيع القول بأن كل زاهد فهو ورع، وليس كل ورع زاهد.

بالفهم الصحيح للزهد والورع حسب التعريفات السابقة نتخلص من الفهم الخاطئ والغلط الذي قد يقع فيه بعض الناس في موضوع الزهد والورع ، ولذلك صور منها :
أ- قَصر الزهد على مظاهر معينة في المأكل والمشرب والملبس والمسكن أو ترك الاكتساب، والتفرغ للذكر والقرآن ونوافل العبادات... الخ، ونسيان ما هو أهم من ذلك وهو زهد القلب وميله إلى الآخرة ومحبته وتوكله على الله عز وجل وترك ما يضره من الآثام الباطنة والظاهرة، ولذلك فأول ما ينبغي أن ينْصَبَ إليه اهتمامُ الزاهدِ بحق: زهده في ما حرم الله عز وجل وقيامه بما أوجب الله عز وجل ويلي ذلك زهده في مشتبهات الحرام وفعله لمشتبهات الواجب ثم يصل بعد ذلك إلى زهده في المباحات التي لا تنفعه في الآخرة ؛وإن أخذ بها نوى بها التقوى على طاعة الله سبحانه ؛فتتحول المباحات في حقه إلى عبادات ينتفع بها في الآخرة.
ب- اعتقاد بعض النـاس أن الزهد والورع يختصان بجانب التروك فقط؛ فلا يرون الورع أو الزهد إلا في ترك الحرام أو مشتبهاته لا في أداء الواجبات ومشتبهاتها ،مع أننا لو أمعنا النظر في مفهوم الترك- الوارد في تعريف الزهد والورع لرأيناه يشمل ترك المحرم ومشتبهاته وفعل الواجب ومشتبهاته ومن قام بذلك فقد ترك ما يخاف ضرره في الآخرة.
ومن هذا الغلط تنشأ بعض الصور المتناقضة في حياة من يدعي الزهد أو الورع.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يفصل هذه الحالة فيقول " يقع الغلط في الورع على ثلاث جهات:
منها : اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب، وهذا ما ابتلي به كثير من المتدينة المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظَّلَمَةِ من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أمورًا ، واجبة عليه؛ إما عينًا أو كفـاية وقـد تعينت عليه، من: صلة رحم، وحق جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحق مسلم، وذي سلطان، وذي علم، وعن أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله... إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه. أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى ؛ بل من جهة التكليف ونحو ذلك "
مجموع الفتاوى 20 / 139 . أ هـ.
ج- قيام بعض الناس ببعض الأعمـال التي قـد تكون محـرمة أو بترك بعض الأعمال التي قـد تكون واجبة اعتقادًا منهم أن ذلك من الورع. وهذا يحصل في العادة عند تعارض المصالح والمفاسـد وعـدم المـوازنة لما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية، ويشرح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذه المسألة فيقول : »وتمام الورع أن يتعلم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجمعة والجماعات خلف الأئمة الذين فيهم بدعة، أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع من قبول شهادة الصادق، وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفيفة، ويرى ترك قبول سـماع هذا الحق الذي يجـب سـماعه من الـوَرَعِ "
مجموع الفتاوى 10 / 512 .
د- جهل بعض المتورعة أو المتزهدة بالكتاب والسنة فيفعلون بعض الأفعال ظنًّا منهم أنها واجبة أو شبه واجبة، ويتركون بعض الأعمال ظنًّا منهم أنها محرمة أو شبه محرمة، ودافعهم إلى ذلك الورع والتدين؛ لكن جهلهم ببعض الحلال والحرام قد يؤدي بهم إلى فعل ما لم يدل الدليل على وجوبه أو ترك مالم يدل الدليل على أنه حرام أو مشتبه بالحرام، وإنما قد يكون هذا الورع مبني على الظن أو الميل النفسي فحسب.
وعن هذا يتحدث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيقول".. إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحـرم والمشـتبه فينـبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكـتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه من أشياء لعادة ونحـوها، فيكــون ذلك مما يقـوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهـم فى أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الـورع الفاسـد... ومن هـذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصـحيح لما ترخص في أشياء فبلغـه أن أقوامًا تنـزَّهوا عنها، فقـال"......." .
"جاء ثلاثُ رهطٍ إلى بُيوتِ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، يَسأَلونَ عن عبادةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فلما أُخبِروا كأنهم تَقالُّوها ، فقالوا : أين نحن منَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ؟ قد غفَر اللهُ له ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر ، قال أحدُهم : أما أنا فإني أُصلِّي الليلَ أبدًا ، وقال آخَرُ : أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطِرُ ، وقال آخَرُ : أنا أعتزِلُ النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا ، فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال " أنتمُ الذين قلتُم كذا وكذا ؟ أما واللهِ إني لأخشاكم للهِ وأتقاكم له ، لكني أصومُ وأُفطِرُ ، وأُصلِّي وأرقُدُ ، وأتزوَّجُ النساءَ ، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس مني " .الراوي : أنس بن مالك | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم: 5063 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] الدرر
ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم« أهـ مجموع الفتاوى : 20 / 141 ، 142 ..

هـ- إرادة الإنسان بورعه وزهده من الدنيا الشهرة أو الصدارة أو ثناء الناس... إلخ.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى " ... واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص، أما الورع بفعل المأمور به فظاهر، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، وأما ترك المنهي عنه الذي يسميه بعض الناس ورعًا فإنه إذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يُثَبْ عليها، وإن لم يُعاقب عليها، وإن تركها لوجه الله أثيب عليها، ولا يكون ذلك إلا بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله، أو خشية عذابه« أهـ
مجموع الفتاوى : 20 / 141 ، 142 .
و- إن الزهد في الدنيا قد يكون لطلب الراحة مما يلحق من ضررها. أو لعدم حصول المطلوب منها ، وهذا كله ليس من الزهد في شيء وليس بمحمود عند الله عز وجل.
وإنما المحمود من ترك الدنيا وذمها ما كان دافعه إرادة وجه الله عز وجل والدار الآخرة ولكون الدنيا تشغل عن ذلك، ولولا كون الدنيا تشغل عن عبادة الله عز وجل والدار الآخرة لم يشرع الزهد فيها، فلينتبه من يدعي الزهد إلى هذا الأمر وليفتش عن نيته ولا يلبـس الحـق بالبـاطل.
(أن قومًا زهدوا فيما ينفعهم بلا مضرة فوقعوا به في ترك واجبات أو مستحبات كمن ترك النساء وأكل اللحم ونحو ذلك.
وقد قال صلى الله عليه وسلم "

أما واللهِ إني لأخشاكم للهِ وأتقاكم له ، لكني أصومُ وأُفطِرُ ، وأُصلِّي وأرقُدُ ، وأتزوَّجُ النساءَ ، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس مني "
ز- وقد يوقع زهدًا في فعل محظورات، كمن ترك تناول ما أبيح له من المال والمنفعة، واحتاج إلى ذلك فأخذه من حرام، أو سأل الناس المسألة المحرمة، أو استشرف إليهم، والاستشراف مكروه.
ومن كان زهده زهد الكسل والبطالة والراحة لا لطلب الدار الآخرة بالعمل الصالح والعلم النافع، فإن العبد إذا كان زاهدًا بطالاً فسد أعظم فساد، فهؤلاء لا يعمرون الدنيا ولا الآخرة، فمن ترك بزهده حسنات مأمور بها كان ما تركه خير من زهده.
. الفهم الصحيح للورع الزاهد .عبدالعزيز بن ناصر الجليل

هنا.

-
المفهوم السلبي للزهد :
فالزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباءة، لكن يوجد معنى دقيق جداً:
أنك بإمكانك أن تطعم الفقراء، وتؤوي المشردين، وتزوج الشباب، وتنفقه في تعليم القرآن، وحل مشكلات الناس،
فإذا زهدت بمال حلال يمكن أن يكون قوة لك في الآخرة, فأنت لست بزاهد، وإذا زهدت بمنصب يمكن أن تحق الحق فيه وتبطل الباطل ويكون نفعك عاماً, فأنت لست بزاهد، هذا المفهوم السقيم للزهد: كل شيء ترفضه، وتنسحب منه، ليس معك أعمال صالحة.
أحيانًا: المال قوة, والعلم قوة, والمنصب قوة، هذه مراكز قوى كبيرة جداً، الذي مكن في الأرض, متاح له أن يعمل من الأعمال الصالحة ما لا يستطيع الآخرون أن يفعلوه، فحينما تزهد في شيء من نعم الله التي تنفعك في الآخرة، وبإمكانك أن تنتفع بها في الآخرة, أنت في هذه الحالة لست بزاهد، من أجمل ما في القرآن عن الزهد:
"
لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" سورة الحديد الآية: 23.
لا تأسفوا على مفقود، ولا تفرحوا لموجود.
هنا


قال الشاعر الزاهد :
لا تركننّ إلى القصور الفاخرة *** واذكر عظامك حين تمسي ناخِرة
وإذا رأيت زخارف الدنيا فقل *** يا رب إنّ العيشَ عيشُ الآخرة

*والعاقل إذا قرأ القرآن وتبصر عرف قيمة الدنيا ، وأنها ليست بشيء ، وأنها مزرعة للآخرة ، فانظر ماذا زرعـت فيها لآخرتِكَ ؟ إن كنتَ زرعتَ خيرًا فأبشر بالحصاد الذي يرضيك ، وإن كان الأمر بالعكس فقد خسرت الدنيا والآخرة . نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية .
فالدنيا مهمـا طـابَ عيشُها فمآلها للفناءِ ، وإذا لم يصحبهـا عمـل صالـح فإنهـا خَسَـارة . ومـن عمـل فيهـا عمـلاً صالحًا صارت مزرعة له في الآخرة ، ونال السعادتين ؛ سعادة الدنيا وسعادة الآخرة .

شرح رياض الصالحين / للعثيمين / ج : 6 / ص : 9

التعديل الأخير تم بواسطة أم أبي التراب ; 12-06-2016 الساعة 02:53 PM
رد مع اقتباس