عرض مشاركة واحدة
  #37  
قديم 05-23-2017, 11:07 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
مدير
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 4,016
y

المجلس الثامن والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
¤ تابع اليقين ¤
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه .
*"صلاحُ أوَّلِ هذهِ الأُمَّةِ بالزُّهدِ واليَقينِ ، وهلاكُ آخِرِها بالبُخلِ والأمَلِ"الراوي : عبدالله بن عمرو- المحدث : الألباني- المصدر : صحيح الترغيب-الصفحة أو الرقم: 3215 - خلاصة حكم المحدث : حسن لغيره .الدرر .
وفوَّضْتُ أمري إليك
، أي: توكَّلتُ في جميع أموري عليك، راجيًا أن تَكفيَني كلَّ شيء، وتَحميَني من كلِّ سوء،فلا يظن الإنسان أن أحدًا ينجيه من الله عز وجل، ولذلك أول ما يفكر فيه الإنسان إذا نزلت به المصيبة أو حلّت به بلية أن يتجه إلى الله وحده لا شريك له.
وقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع تلك المرأة الضعيفة، مع صبي ضعيف في وادٍ، -أمره الله بالهجرة إليه- غير ذي زرع، لا أنيس به ولا جليس، فكان صلوات الله وسلامه عليه مستجيبًا لأمر ربه مسلَّمًا لخالقه كما وصفه الله في كتابه، فجاءته تلك المرأة الضعيفة وتعلّقت به بعد أن حطَّ رحالها وتركها وصبيها، فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فأعرض عنها عليه الصلاة والسلام كأنه يقول لها: أنت تعلمين لمن أدعك .. فمضى إلى الوادي، فجرت وراءه وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فنظر إليها ثم أعرض عنها، ثم في المرة الثالثة، تعلقت به وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فقال: لله، قالت: إذاً لا يخيبنا الله، فوقع ما وقع لها ولصبيها فاستغاثت بالله عز وجل واستجارت في شربة ماء لها ولطفلها، ففجّر الله عز وجل الماء من تحت قدم صبيها. فمن أيقن بالله عز وجل في أي شدة أو أي خطب فإن الله لا يضيعه.
"رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ "إبراهيم37
*"أولُ ما اتَّخَذَ النساءُ المِنْطَقَ من قِبَلِ أم إسماعيلَ ، اتخذتْ مِنْطَقًا لتُعفي أَثَرها على سارةَ ، ثم جاء بها إبراهيمُ وبابنها إسماعيلَ وهي تُرْضِعُهُ ، حتى وضعها عند البيتِ ، عند دَوْحَةٍ فوق زمزمَ في أعلى المسجدِ ، وليس بمكةَ يومئذٍ أحدٌ ، وليس بها ماءٌ ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جِرَابًا فيهِ تمرٌ ، وسقاءً فيهِ ماءٌ ، ثم قَفَّى إبراهيمُ منطلقًا ، فتبعتْهُ أمُّ إسماعيلَ ، فقالت : يا إبراهيمُ ، أين تذهبُ وتتركنا بهذا الوادي ، الذي ليس فيهِ إنسٌ ولا شيٌء ؟ فقالت لهُ ذلك مرارًا ، وجعل لا يتلفتُ إليها ، فقالت لهُ : آللهُ الذي أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يُضَيِّعُنَا ، ثم رجعت ، فانطلقَ إبراهيمُ حتى إذا كان عند الثَّنِيَّةِ حيثُ لا يرونَهُ ، استقبلَ بوجهِهِ البيتَ ، ثم دعا بهؤلاءِ الكلماتِ ، ورفع يديهِ فقال : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ - حتى بلغ - يَشْكُرُونَ . وجعلت أمُّ إسماعيلَ تُرْضِعُ إسماعيلَ وتشربُ من ذلك الماءِ ، حتى إذا نفد ما في السِّقَاءِ عطشتْ وعطشَ ابنها ، وجعلت تنظرُ إليهِ يَتَلَوَّى ، أو قال يتلبَّطُ ، فانطلقت كراهيةَ أنتنظرَ إليهِ ، فوجدتِ الصفا أقربُ جبلٍ في الأرضِ يليها ، فقامت عليهِ ، ثم استقبلتِ الوادي تنظرُ هل ترى أحدًا فلم تَرَ أحدًا ، فهبطتْ من الصفا حتى إذا بلغتِ الوادي رفعتْ طرفَ درعها ، ثم سعت سعيَ الإنسانِ المجهودِ حتى إذا جاوزتِ الوادي ، ثم أتتِ المروةَ فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تَرَ أحدًا ، ففعلت ذلك سبعَ مراتٍ . قال ابنُ عباسٍ : قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ( فذلك سعيُ الناسِ بينهما ) . فلما أشرفت على المروةِ سمعت صوتًا ، فقالت صَهْ - تريدُ نفسها - ثم تَسَمَّعَتْ ، فسمعت أيضًا ، فقالت : قد أُسْمِعْتُ إن كان عندكَ غَوَاثٌ ، فإذا هي بالمَلَكِ عند موضعِ زمزمَ ، فبحث بعقبِهِ ، أو قال : بجناحِهِ ، حتى ظهرِ الماءِ ، فجعلت تَحُوضُهُ وتقولُ بيدها هكذا ، وجعلت تغرُفُ من الماءِ في سقائها وهو يفورُ بعد ما تغرفُ . قال ابنُ عباسٍ : قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ( يرحمُ اللهُ أم إسماعيلَ ، لو كانت تركت زمزمَ - أو قال : لو لم تغرف من الماءِ - لكانت زمزمُ عينًا معينًا ) . قال : فشربت وأرضعتْ ولدها ، قال لها الملَكُ : لا تخافوا الضَّيْعَةَ ، فإنَّ ها هنا بيتُ اللهِ ، يبني هذا الغلامُ وأبوهُ ، وإنَّ اللهَ لا يُضَيِّعُ أهلَهُ . وكان البيتُ مرتفعًا من الأرضِ كالرابيةِ ، تأتيهِ السيولُ ، فتأخذُ عن يمينِهِ وشمالِهِ ، فكانت كذلك حتى مَرَّتْ بهم رفقةٌ من جُرْهُمَ ، أو أهلُ بيتٍ من جُرْهُمَ ، مقبلينَ من طريقِ كَدَاءٍ ، فنزلوا في أسفلِ مكةَ ، فرأوا طائرًا عائفًا ، فقالوا : إنَّ هذا الطائرَ ليدورُ على ماءٍ ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيهِ ماءٌ ، فأرسلوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فإذا هم بالماءِ ، فرجعوا فأخبروهم بالماءِ فأقبلوا ، قال : وأمُّ إسماعيلَ عند الماءِ ، فقالوا : أتأذنينَ لنا أن ننزلَ عندكِ ؟ فقالت : نعم ، ولكن لا حقَّ لكم في الماءِ ، قالوا : نعم . قال ابنُ عباسٍ : قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ "فألفى ذلك أمُّ إسماعيلَ وهي تُحِبُّ الأُنْسَ " . فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهلُ أبياتٍ منهم ، وشبَّ الغلامُ وتعلَّمَ العربيةَ منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شبَّ ، فلما أدركَ زوَّجوهُ امرأةً منهم ، وماتت أمُّ إسماعيلَ ، فجاء إبراهيمُ بعد ما تزوجَ إسماعيلُ يُطالعُ تَرِكَتَهُ ، فلم يجد إسماعيلَ ، فسأل امرأتَهُ عنهُ فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحنُ بشرٌ ، نحنُ في ضيقٍ وشدةٍ ، فشكت إليهِ ، قال : فإذا جاء زوجكِ فاقرئي عليهِ السلامَ ، وقولي لهُ يُغَيِّرْ عتبةَ بابِهِ ، فلما جاء إسماعيلُ كأنَّهُ آنسَ شيئًا ، فقال : هل جاءكم من أحدٍ ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخٌ كذا وكذا ، فسأَلَنَا عنكَ فأخبرتُهُ ، وسألني كيف عيشنا ، فأخبرتُهُ أنَّا في جهدٍ وشدةٍ ، قال : فهل أوصاكِ بشيٍء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأَ عليك السلامَ ، ويقولُ : غَيِّرْ عتبةَ بابكَ ، قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أُفَارِقَكِ ، الحقي بأهلِكِ ، فطلَّقها ، وتزوَّجَ منهم أخرى ، فلبثَ عنهم إبراهيمُ ما شاء اللهُ ، ثم أتاهم بعدُ فلم يجدْهُ ، فدخل على امرأتِهِ فسألها عنهُ ، قالت : خرج يبتغي لنا ، قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، قالت : نحنُ بخيرٍ وسِعَةٍ ، وأثنتْ على اللهِ . فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحمُ . قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماءُ . قال : اللهمَّ بارِكْ في اللحمِ والماءِ . قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ "ولم يكن لهم يومئذٍ حَبٌّ ، ولو كان لهم دعا لهم فيهِ " . قال : فهما لا يَخلو عليهما أحدٌ بغيرِ مكةَ إلا لم يُوافقاهُ . قال : فإذا جاء زوجكِ فاقرئي عليهِ السلامَ ، ومُرِيهِ يُثَبِّتْ عتبةَ بابِهِ ، فلما جاء إسماعيلُ قال : هل أتاكم من أحدٍ ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخٌ حسنُ الهيئةِ ، وأثنتْ عليهِ ، فسألني عنك فأخبرتُهُ، فسألني كيف عيشنا فأخبرتُهُ أنَّا بخيرٍ ، قال : فأوصاكِ بشيٍء ، قالت : نعم ، هو يقرأُ عليك السلامَ ، ويأمرك أن تُثَبِّتْ عتبةَ بابكَ ، قال : ذاك أبي وأنتِ العتبةُ ، أمرني أن أُمْسِكَكِ ، ثم لبث عنهم ما شاء اللهُ ، ثم جاء بعد ذلك ، وإسماعيلُ يَبْرِي نَبْلًا لهُ تحت دَوْحَةٍ قريبًا من زمزمَ ، فلما رآهُ قام إليهِ ، فصنعا كما يصنعُ الوالدُ بالولدِ والولدُ بالوالدِ ، ثم قال : إنَّ اللهَ أمرني بأمرٍ ، قال : فاصنع ما أمر ربكَ ، قال : وتُعينني ؟ قال : وأُعينكَ ، قال : فإنَّ اللهَ أمرني أن أبني ها هنا بيتا ، وأشار إلى أَكْمَةٍ مرتفعةٍ على ما حولها ، قال : فعند ذلك رفعا القواعدَ من البيتِ ، فجعل إسماعيلُ يأتي بالحجارةِ وإبراهيمُ يبني ، حتى إذا ارتفعَ البناءُ ، جاء بهذا الحجرِ ، فوضعَهُ لهُ فقام عليهِ ، وهو يبني وإسماعيلُ يُنَاوِلُهُ الحجارةَ ، وهما يقولانِ : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . قال : فجعلا يبنيانِ حتى يدورا حول البيتِ وهما يقولانِ : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
الراوي : عبدالله بن عباس-المحدث : البخاري -المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم: 3364 -خلاصة حكم المحدث : صحيح
شرح الحديث :
يَحكي ابنُ عَبَّاس رضي الله عنهما أنَّ أوَّلَ ما اتَّخَذَ النِّساءُ "المِنْطَقَوهو: قِطْعةٌ مِن قُماشٍ تَشُدُّ بِها المَرأةُ وسطَها، وتَجُرُّ أسفَلَه عَلى الأرضِ، كانَ مِن جِهةِ هاجَرَ أُمِّ إِسْماعيلَ، وسَبَبُه أنَّ سارةَ كانت قَدْ وهَبَتْ هاجَرَ لِإِبْراهيمَ عليه السَّلام، فَلمَّا وَلَدَتْ إِسْماعيلَ غارَتْ منها، فَشَدَّت المِنْطَقَ، وصارَتْ تَجُرُّ أسفَلَه عَلى الأرضِ؛ لِتُخفي آثارَ أقدامِها، ثمَّ أمَرَه اللهُ تَعالى أن يَذهَبَ بِها إلى مَكَّةَ فَفَعَلَ، ولَم يَكُن هُناكَ بَيْتٌ ولا بِناءٌ ولا زَرْعٌ ولا ماءٌ، فَوَضَعَها تَحْتَ شَجرةٍ هُناكَ فَوْقَ مَكان زَمْزَمَ، وكانَ إِسْماعيلُ رَضيعًا، ومَكَّةُ صَحْراءَ قاحِلةً، وتَرَكَ لها جِرابَ تَمرٍ وسِقاءَ ماءٍ، وعاد راجِعًا إلى الشَّامِ، فَقالت له: أينَ تَذهَب وتَترُكنا بِهذا الوادي الَّذي لا إِنْسَ فيه ولا شَيءَ؟ وأعادَت السُّؤالَ مِرارًا، فَلَمَّا لَم يُجِبْها، سَألَتْه: هَلْ أمَرَك اللهُ بِذَلِكَ؟ فَأجابَها: نَعَم، قالت: ما دامَ قَد أمَرَك بِذَلِكَ، فَلَن يُضَيِّعَنا، وسارَ إِبْراهيمُ عليه السَّلام مُتَضَرِّعًا إلى اللهِ مُتَوجِّهًا إلى بَيتِه الحَرامِ داعيًا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}، أي: لا نَباتَ فيه عِندَ بَيتِك المُحَرَّمِ، {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَأي: إِنَّما جَعَلته مُحَرَّمًا؛ ليَتَمَكَّن أهْلُه مِن إِقامةِ الصَّلاةِ عِندَه، "فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي: فاجْعَلْ جَماعاتٍ مِن النَّاسِ تَأتيهم "وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي: ليَكونَ ذلك عَونًا لهم عَلى طاعتِك. وجَعَلَتْ هاجَرُ تُرضِع إِسْماعيلَ عليه السَّلام، وتَشْرَب مِن ذلك الماءِ، حَتَّى إِذا نَفِدَ ما في السِّقاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابنُها، وجَعَلَتْ تَنظُر إليه "يَتَلَوَّى"، أي: يَتَلَفَّت، أو قالَ "يَتَلَبَّط أي: يُحرِّك لِسانَه، ويَكاد يَموتُ مِن شِدَّةِ العَطشِ، فَلَم تُطاوِعْها نَفْسُها أن تَراه عَلى تِلْكَ الحالةِ، فانْطَلَقَتْ كَراهيةَ أن تَنظُرَ إليه وهو عَلى وشْكِ أن يَموتَ مِن العَطشِ، ثمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسانِ المَجْهودِ تَبحَث عَن الماءِ بَينَ الصَّفا والمَرْوةِ سَبْعَ مَرَّات، فَشَرَع اللهُ لِلنَّاسِ السَّعْيَ في الحَجِّ مِن أجْلِ ذَلِكَ. فَلَمَّا أشْرَفتْ عَلى المَرْوةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقالت: "صَهٍ" تُريدُ نَفْسَها، أي: طَلَبَتْ مِن نَفْسِها السُّكوتَ؛ لِكَي تَتعَرَّفَ عَن مَصدَرِ الصَّوتِ، ومِن أيْنَ أتى. ثمَّ تَسَمَّعتْ فَسَمِعَتْ أيْضًا الصَّوْتَ مَرَّة أُخرى، فَقالت: قَدْ أسْمَعتَ إِن كانَ عِنْدَك "غِواثٌ"، يَعْني: قَدْ سَمِعت صَوْتك، فَإِنْ كانَ عِنْدَك ما يُغيثني فَأغِثْني. فَإِذا هيَ بالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِع زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِه، أو قالَ بِجَناحِه حَتَّى ظَهَرَ الماءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضه، وتَقولُ بيَدِها هَكَذا، أي: فَصارَتْ تُحيطه بالتُّرابِ وتَجْعَله حَوْضًا، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ ولَم تُحَوِّضها لَصارَتْ عَيْنًا مَعينًا، أي: عَيْنًا جاريةً عَلى وجْهِ الأرضِ. فَقالَ لها المَلَكُ: لا تَخافوا "الضَّيْعةَ"، أي: لا تَخافوا الضَّياعَ والهَلاكَ؛ لِأنَّكم تَحْتَ رِعايةِ اللهِ تَعالى. وكانَ البَيْتُ مُرتفِعًا مِن الأرْضِ كالرَّابيةِ، أي: مُرتفِعًا قَليلًا. ثمَّ مَرَّ بِذَلِكَ المَكانِ، أو بالقُربِ مِنه جَماعةٌ مُسافِرونَ مِن جُرْهُمٍ مَرُّوا بِأعْلى مَكَّةَ، فَرَأوْا طَيْرًا حائِمًا عَلى الماءِ، فَعَرَفوا أنَّ بِهذا الوادي ماءً، وكانَ عَهدهم بِه أنَّه وادٍ مُقْفِرٌ، فَأرْسَلوا رَسولًا مِن قِبَلهم، أو رَسولَيْنِ؛ ليَكشِفَ لهم عَن الحَقيقةِ، فَرَجَعَ إليهم رُسُلُهم يُخبِرونهم عَن وُجودِ ماءٍ في تِلْكَ البُقْعةِ، فَأقْبَلوا عَلى أُمِّ إِسْماعيلَ، واستَأذَنوا منها بالنُّزولِ في جِوارِها، فَأذِنَتْ لهم بِذَلِكَ، عَلى أن لا يَكونَ لهم حَقُّ التَّمَلُّكِ في ذلك الماءِ، وإنَّما لهم أن يَشرَبوا مِنه فَقَطْ، وسَكَنَتْ جُرْهُمٌ مَكَّةَ مُنْذُ ذلك العَهْدِ، واسْتَأْنَسَتْ بِسُكْناهم مَعَها، وشَبَّ الغُلامُ في هذه القَبيلةِ، وتَعَلَّمَ منهم اللُّغةَ العَرَبيَّةَ، ثمَّ لَمَّا بَلَغَ الرُّشدَ زَوَّجوه امْرَأةً منهم اسْمها عِمارةُ بِنْتُ سَعْدٍ، ثمَّ ماتَتْ أُمُّ إِسْماعيلَ، فَجاءَ إِبْراهيمُ عليه السَّلامُ بَعدَما تَزَوَّجَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ، يُطالِع تَرِكتَه، أي: يَتَفَقَّد حالَ أهْلِه ووَلَدِه، فَلَم يَجِد إِسْماعيلَ عليه السَّلام، فَسَألَ امْرَأتَه عَنْه، فَقالت: خَرَجَ يَبْتَغي لَنا، أي: يَطلُب لَنا الرِّزْقَ، ثمَّ سَألَها عَن عَيْشِهم وهَيْئتِهم، أي: حالتِهم، فَقالت: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ في ضيقٍ وشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إليه، قالَ: فَإِذا جاءَ زَوْجُك فاقْرَئي عليه السَّلامَ، وقولي له: يُغَيِّر عَتبةَ بابِه، فَلَمَّا جاءَ إِسْماعيلُ عليه السَّلام، كَأنَّه آنَسَ شَيْئًا، فَقالَ: هَلْ جاءَكم مِن أحَد؟ أيْ: فَلَمَّا جاءَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ، وكانَ قَدْ أحَسَّ في نَفْسِه أنَّه جاءَها أحَد، فَسَألَها قائِلًا: هَلْ جاءَكم مِن أحَد؟ قالت: نَعَم جاءَنا شَيْخ كَذا وكَذا، أي: صِفتُه كَذا، وأخْبَرَتْه بِكُلِّ ما دارَ. فَقالَ: ذاكَ أبي، وقَدْ أمَرَني أن أُفارِقَك، أي: أن أُطَلِّقَك، الْحَقي بِأهلِك، أي: أنْتِ طالِقٌ فاذْهَبي إلى أهْلِك. وتَزَوَّجَ منهم امْرَأةً أُخرى وهيَ رَعْلةُ بِنْتُ مُضامِن، فَلَبِثَ عَنْهُم إِبْراهيمُ عليه السَّلامُ مُدَّةً مِن الزَّمَنِ ثمَّ أتاهم بَعْدَ فلَم يَجِده، فَدَخَلَ عَلى امْرَأتِه، فَسَألَها عَنْه، قالت: خَرَجَ يَبْتَغي لَنا، أي: يَسْعى في طَلَبِ الرِّزقِ. قالَ: كَيْفَ أنْتُم، وسَألَها عَن عَيْشِهم وهَيْئتِهم؟ فَقالت: نَحْنُ بِخَيْرٍ وسَعةٍ، أي: نَحْنُ في نِعمةٍ مِن الله وسَعةٍ في الرِّزقِ وأثْنَت عَلى الله، أي: حَمِدَت رَبَّها وشَكَرَتْه؛ لِأنَّها كانت راضيةً بِما قَسَمَ لها، شَأْن المَرْأةِ الصَّالِحةِ، فَقالَ: ما طَعامُكم؟ قالت: اللَّحْمُ، قالَ: فَما شَرابُكم؟ قالت: الماءُ، أي: فَسَألَها عَن طَعامِهم وشَرابِهم الَّذي يَعيشونَ عليه، فَذَكَرَتْ أنَّ طَعامَهم اللَّحْم، وشَرابَهم الماء. فَدَعا لهم بالبَرَكةِ في اللَّحْمِ والماءِ، فَكانوا يَقْتَصِرونَ عليهما دونَ أن يَتَضَرَّروا منهما، وأصْبَحَ ذلك خاصًّا بِمَكَّةَ دونَ غَيرِها مِن البِلادِ، فَإِنَّه لا يَقتَصِر أهْل بَلَدٍ عليهما إلَّا تَضَرَّروا منهما، كَما قالَ: فَهُما لا يَخْلو عليهما أحَدٌ بِغَيرِ مَكَّةَ إلَّا لَم يوافِقاه، لَيْسَ أحَد يَخْلو عَلى اللَّحْمِ والماءِ بِغَيْرِ مَكَّةَ إلَّا اشْتَكى بَطنَه، قالَ: فَإِذا جاءَ زَوجُك فاقْرَئي عليه السَّلامَ، ومُريه يُثبِت عَتَبةَ بابِه، فَلَمَّا جاءَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ قالَ: هَلْ أتاكم أحَد؟ فَأخْبَرتْه عَن الشَّيْخِ الَّذي جاءَها في غيابِه، وبِأوصافِه وما دارَ بَينَه وبَينَها. فَقالَ: ذاكَ أبي وأنْتِ العَتَبةُ، أمَرَني أن أُمسِكَك، أي: أن أُبقيَك في عِصمَتي. ثمَّ جاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وإسْماعيلُ عليه السَّلام يَبْري نَبْلًا، أي: يَنْحِت سَهْمًا ويُصلِحه. فَلَمَّا رَآه قامَ إليه فَصَنَعا كَما يَصنَع الوالِدُ بالوَلَدِ والوَلَدُ بالوالِدِ، أي: فَعانَقَه مُعانَقةَ الوالِدِ لِوَلَدِه. ثمَّ قالَ: يا إِسْماعيلُ، إِنَّ اللهَ أمَرَني بِأمرٍ، أي: أمَرَني أن أقومَ بِعَملٍ في هذا المَكانِ، ثمَّ طَلَبَ مِن ولَدِه إِسْماعيلَ عليه السَّلام أن يُعينَه عليه، ثمَّ قالَ: إِنَّ الله أمَرَني أن أبْنيَ هاهُنا بَيْتًا، وأشارَ إلى "أكَمةٍ مُرتَفِعةٍ"، أي: إلى رَبْوةٍ مُرتفعةٍ قَليلًا عَن سَطحِ الأرْضِ؛ ليُبَيِّن له المَكانَ الَّذي أُمِرَ بِبَناء الكَعْبةِ فيه، قالَ: فَعِنْدَ ذلك "رَفَعا القَواعِدَ"، أي: شَرَعا في البِناءِ حَتَّى رَفَعا الأُسُسَ الَّتي يَقومُ عليها البَيْتُ. فَجَعَلَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ يَأْتي بالحِجارةِ، وإبْراهيمُ عليه السَّلامُ يَبْني، حَتَّى إِذا ارْتَفعَ البِناءُ وعَلا وأصْبَحَ لا تَطولُه يَدُه. جاءَ بِهذا الحَجَرِ المَوْجودِ حاليًّا في المَقامِ، فَقامَ عليه، وإسْماعيلُ عليه السَّلامُ يُناوِله الحِجارةَ، وهُما يَقولانِ: "رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" فَيَدْعوانِ اللهَ بِقَبولِ بِنائِهما هذا، والرِّضا عَنْهما فيه؛ لِأنَّه السَّميعُ لِدُعائِهما، العَليمُ بِبِنائِهما.الدرر..
"لم يَكْذِبْ إبراهيمُ إلا ثلاثَ كَذِبَاتٍ ، ثِنْتَيْنِ منهنَّ في ذاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ . قولُهُ"إِنِّي سَقِيمٌ " . وقولُهُ " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا " . وقال : بينا هو ذاتَ يومٍ وسارةُ ، إذ أتى على جبارٍ من الجبابرةِ ، فقيل لهُ : إنَّ هاهنا رجلًا معهُ امرأةٌ من أحسنِ الناسِ ، فأرسلَ إليهِ فسألَهُ عنها ، فقال : من هذهِ ؟ قال : أختي ، فأتى سارةَ فقال : يا سارةُ ليس على وجهِ الأرضِ مؤمنٌ غيري وغيركِ ، وإنَّ هذا سألني فأخبرتُهُ أنكِ أختي ، فلا تُكَذِّبِينِي ، فأرسلَ إليها ، فلمَّا دخلت عليهِ ذهب يَتناولها بيدِهِ فأُخِذَ ، فقال : ادعي اللهَ ولاأضرُّكِ ، فدعتِ اللهَ فأُطْلِقَ . ثم تَناولها الثانيةَ فأُخِذَ مثلها أو أشدَّ ، فقال : ادعي اللهَ لي ولا أضرُّكِ ، فدعتْ فأُطْلِقَ ، فدعا بعضَ حجبتِهِ ، فقال : إنكم لم تأتوني بإنسانٍ ، إنما أتيتموني بشيطانٍ ، فأخدمها هاجرَ ، فأتتْهُ وهو يُصلِّي ، فأومأَ بيدِهِ : مَهْيَا ، قالت : رَدَّ اللهُ كيدَ الكافرِ ، أو الفاجرِ ، في نحرِهِ ، وأخدمَ هاجرَ- . قال أبو هريرةَ : تلكَ أُمُّكُمْ ، يا بني ماءِ السماءِ .
الراوي : أبو هريرة-المحدث : البخاري- المصدر:صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم: 3358 خلاصة حكم المحدث:صحيح-
شرح الحديث:
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ إِبراهيمَ عليْهِ السَّلامُ لم يَكذِبْ إلَّا ثلاثَ كذِباتٍ، ثم يخبر بتَفاصيلِ تلك الكذبات فيقولُ: "ثِنْتَينِ مِنهنَّ في ذاتِ اللهِ عزَّ وجلَّوإنَّما قال عن ثِنتَينِ فقط إنَّها في ذاتِ الله؛ لأنَّ الثالِثةَ فإنَّها وإنْ كانتْ في ذاتِ اللهِ لكنَّ فيها حَظًّا لنَفسِهِ، وإنَّما أُطلِقَ الكذِبُ على هذِه الأمورِ لكونِهِ قالَ كلامًا يظُنُّهُ السامِعُ كذبًا لكنَّ حقيقةَ الأمرِ أنَّهُ لم يكنْ كذلِكَ لأنَّهُ مِن المَعاريضِ فليسَ بكذِبٍ مَحضٍ، أمَّا الأُولى: عِندما طلَبَ منهُ قَومُهُ أنْ يخرُجَ معَهمْ إلى عِيدِهِمْ وأرادَ أنْ يَكسِرَ آلِهتَهُم قالَ لهمْ"إِنِّي سَقِيمٌأي: ليظُنُّوا أنَّه مَريضٌ مُصابٌ، فيترُكوه، وأَرادَ أنَّ قَلْبَهُ مريضٌ ممَّا يَصنعونَ مِن الكُفرِ أو غيرِ ذلكَ.
وأمَّا الثانيةُ: فعِندما حطَّمَ الأَصنامَ ورَجعوا واتَّهموهُ بِهذا الفعلِ فقالَ"بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا" أرادَ أنَّهُ سببٌ في الفِعلِ لا هُو الفاعلُ نفسُه؛ لأنَّهُ لَمَّا وَجدَها مُتراصَّةً حوْلَهُ تَعظيمًا لهُ حطَّمها كلَّها إِمْعانًا في إذْلالِهِ؛ وقد قال ذلك ليُعمِلوا عقولَهم فيَعرِفوا أنَّها أحجارٌ لا تستطيعُ فِعلَ شيءٍ.
وأمَّا الثالِثةُ: فعِندما قدِمَ هُوَ وزَوجَتُه سارَّةُ أرضًا كانَ يحكُمُها جبَّارٌ مِن الجَبابِرةِ، فقيلَ لهذا الجَبَّارِ: إنَّ في أَرضِكَ رجُلًا معَ امرأةٍ مِن أحسنِ النَّاسِ، أي: مِن أَجمَلِهمْ؛ فأَرسلَ إلى إِبراهيمَ فَسألَه عنْها؛ فَقالَ: إنَّها أُخْتي، أرادَ أنَّها أُختُه في اللهِ وفي الدِّينِ والإِسلامِ؛ إذْ لوْ قَالَ زَوجتي، لَقَتلَهُ الفاجِرُ ليَتخَلَّصَ مِنه، وقيلَ: لأَلزَمَه بِطلاقِها، ثمَّ رجَعَ إِبراهيمُ إلى زَوْجتِهِ، فَقالَ لها: إنَّهُ ليسَ على وَجهِ الأَرضِ مُؤمنٌ غَيري وغَيرُكِ، أي: الأرضُ التي هُمْ بِها، ثم قالَ لَها وقدْ سأَلني هَذا الجبَّارُ فأَخبَرْتُه أنَّكِ أُختي، فلا تُكَذِّبيني فتقُولي هُو زَوجي، فأَرسلَ إِليها هذا الجبَّارُ فلمَّا دَخلتْ عَليهِ ورأَى حُسْنَها غلبَه الميلُ إليها فذَهَبَ يُمسِكُها بيدِهِ، (فأُخِذَ) أي: اختَنقَ حتَّى ركَضَ بِرِجلِه كأنَّهُ مَصروعٌ، فقالَ لها: ادْعي اللهَ لي وَلا أضُرُّكِ، فدَعتِ اللهَ فقَالَ: اللهُمَّ إنْ يَمُتْ يَقولوا: هيَ التي قَتلَتْه، فاستجابَ اللهُ لها فعادَ سليمًا، غيرَ أنَّه غَلَبتْه شَهوتُه، فَحاوَلَ أنْ يَتَناوَلها ثانِيةً، فأُخِذَ أشدَّ مِن المرَّةِ الأُولى، فقالَ: ادْعي اللهَ لي وَلا أضُرُّكِ، فدَعتْ فأُطلِقَ، فلمَّا يَئِسَ منها دَعا بعضَ حجَبتِهِ وخدَمِهِ فقالَ: (إنَّكمْ لَمْ تَأْتوني بإِنسانٍ، إنَّما أَتَيْتمُوني بِشَيطانٍ)! حيثُ لم أَقدِرْ عَليها بلْ تَصرعُني كلَّما اقْتربتُ مِنها، ثمَّ لَمَّا رَأى مِنها ذلكَ أَعْطاها هاجَرَ خادِمةً لها، فَرَجعت سارَّةُ إلى إِبراهيمَ فوَجدَتْهُ يُصلِّي، "فأَوْمأَ بِيدِهِ أيْ: أَشارَ إِليها "مَهْياأي ما شَأنُكِ وحالُكِ معَه؟ فقالتْ: ردَّ اللهُ كيدَ الكافرِ، أو الفاجِرِ، في نَحرِهِ، فلمْ يَصِلْ إليَّ بِشيءٍ، وأَخدَمَ هاجَرَ.
وقولُه"تِلكَ أمُّكُمْ يا بَني ماءِ السَّماءِ"، "ماءُ السَّماءِ": أرادَ بِهمُ العَربَ؛ لأنَّهم يَعيشونَ بالمَطرِ ويتَّبِعونَ مواقعَ القَطرِ في البَوادي -وَمَوَاقِع الْقَطْر:أي : بطون الأودية, وخصهما بالذكر لأنهما مظان المرعى -لأَجلِ المواشي، والمرادُ: فتِلكَ المرأةُ التي هيَ هاجرُ هيَ أمُّكمْ أيُّها العربُ.
وفي هذا الحديثِ: إجابةُ الدُّعاءِ بإِخلاصِ النيَّةِ، وبيانُ حِفظِ اللهِ لِعبادِهِ الصَّالحينَ
.
وفيه: أنَّ في المعاريضِ نَجاةً مِن الوُقوعِ في الكَذبِ.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه وصفاته أن يرزقنا وإياكم حلاوة اليقين، وأن يرزقنا وإياكم كمال الإيمان بالله رب العالمين. اللهم إنا نسألك يقينًا لا يخالطه شك، ونسألك إيمانًا لا يخالطه شرك، ونسألك الصدق في حبك والشوق إلى لقائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

عباد الله : اتقوا الله ربكم وراقبوه في جميع أعمالكم مراقبة من يعلمُ أنَّ ربَّه يسمعُه ويراه ؛ وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون: أوشكأن يظلَّكم شهرٌ مبارك وموسمٌ عظيم وموطنٌ جليل تكثُر فيه الخيرات وتعظُم فيه البركات وتتزايد فيه النعم والمنن ؛ إنه -أيها العباد- شهر رمضان المبارك ، شهر الخيرات والبركات ، فاحمدوا الله عز وجل على نعمائه ، واشكروه على فضله وعطائه ، وسلوه أن يبلِّغكم رمضان وأن يجعلكم من أهله حقًا وصدقًا.

*قال ابن ماجه في سننهحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ , أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ , عَنْ ابْنِ الْهَادِ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ , عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ , أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعًا , فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الْآخَرِ , فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ , ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ , قَالَ طَلْحَةُ : فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ , إِذَا أَنَا بِهِمَا فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ , فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا , ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ , ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ , فَقَالَ : ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ , فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ , فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ , فَقَالَ : " مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ " , فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ , وَدَخَلَ هَذَا الْآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً " , قَالُوا : بَلَى , قَالَ : " وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ , فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ " , قَالُوا : بَلَى , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" .
الراوي : طلحة بن عبيدالله-المحدث : الألباني-المصدر : صحيح ابن ماجه -الصفحة أو الرقم: 3185 - خلاصة حكم المحدث : صحيح-شرح الحديث .الدرر .شرح الحديث
طولُ العُمرِ مع حُسْنِ العَملِ مِن أسبابِ الفلاحِ والتَّفاضُلِ بين النَّاسِ، والله سُبحانَه وتعالى يُعْطي المُجتهِدَ على قَدْرِ اجتهادِه.
وفي هذا الحديثِ يُخْبِرُ طَلحةُ بنُ عُبيدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنه: "أنَّ رجُلينِ مِن بَلِيٍّ" وهم فَرعٌ مِن بني عُذْرةَ، وبنو عُذرةَ هم قَبيلةٌ كانتْ تَسكُنُ في وادي القُرى قُربَ المدينةِ، وكانُوا يَدينُونَ باليَهودِيَّةِ قَبلَ الإسلامِ، "قدِمَا على رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكان إسلامُهما جميعًا"، أي: وَفَدا على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُشهِرَينِ لإسلامِهما في وقتٍ واحدٍ، "فكان أحدُهما أشدَّ اجتهادًا مِن الآخرِ"، أي: في العِبادةِ وأعمالِ البِرِّ، "فغَزا المُجتهِدُ منهما"، أي: خرَجَ في الغَزوِ والجهادِ، "فاسْتُشْهِدَ، ثمَّ مكَثَ الآخَرُ بَعدَه سَنةً، ثمَّ تُوُفِّيَ"، أي: مات المُجتهِدُ شهيدًا، ومات صاحبُه بعده بسَنةٍ، قال طَلحةُ رضِيَ اللهُ عنه: "فرأيْتُ في المنامِ بينا أنا عِندَ بابِ الجنَّةِ"، أي: بجوارِ بابِها من الخارجِ، "إذا أنا بهما"، أي: بالرَّجُلينِ واقفَينِ عند بابِ الجنَّةِ، "فخرَجَ خارِجٌ من الجنَّةِ"، أي: ملَكٌ مِن الملائكةِ، "فأذِنَ للَّذي تُوُفِّيَ الآخِرَ منهما"، أي: سمَحَ بالدُّخولِ للَّذي مات أخيرًا قبلَ الَّذي مات شَهيدًا، "ثمَّ خرَجَ فأذِنَ للَّذي اسْتُشْهِدَ"، أي: أدخَلَه بعد صاحِبِه، "ثمَّ رجَعَ إليَّ"، أي: رجَعَ المَلَكُ إلى طَلحةَ مُخاطِبًا إيَّاه، "فقال: ارجِعْ؛ فإنَّك لم يَأْنِ لك بعدُ"، أي: وأنت فلم يحضُرْك أجَلُك لتدخُلَها، "فأصبَحَ طَلحةُ"، أي: مِن لَيلتِه الَّتي رأى بها تلك الرُّؤيا، "يُحَدِّثُ به النَّاسَ"، أي: يُخبِرُهم بها، "فعَجِبوا لذلك"، أي: تعجَّبُوا لدُخولِ الآخِرِ قبلَ الأوَّلِ وقد مات شهيدًا، "فبلَغَ ذلك رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحَدَّثوه الحديثَ"، أي: علِمَ بها النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتعجَّبَ النَّاسُ لحالِهما، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "مِن أيِّ ذلك تعجَبونَ؟"، أي: ما سبَبَ تعجُّبِكم لحالِ الرَّجُلينِ، فقالوا: "يا رسولَ اللهِ، هذا كان أشدَّ الرَّجُلينِ اجتهادًا، ثمَّ اسْتُشْهِدَ، ودخَلَ هذا الآخِرُ الجنَّةَ قبلَه!" فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أليس قد مكَثَ"، أي: عاشَ وقضَى في الحياةِ، "هذا بَعدَه سَنةً"؟ فعُمِّرَ وعاش بعدَ صاحبِه عامًا، قالوا: "بلى"، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "وأدرَكَ رمضانَ فصامَ؟"، أي: حصَلَ له أجْرُ الصِّيامِ والقيامِ فيه وليلةِ القدْرِ، "وصَلَّى كذا وكذا من سَجدةٍ في السَّنةِ؟"، أي: صَلَّى ألفًا وثَمانَ مِئةِ صَلاةٍ من ذلك العامِ الصَّلاةَ المفروضةَ، وما شمِلَها مِن تَطوُّعٍ ونَافلةٍ، قالوا: "بلى"، قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فما بينهما أبعدُ ممَّا بين السَّماءِ والأرضِ"، وفي روايةِ أحمدَ: قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لطَلحةَ: "وما أنكَرْتَ مِن ذلك؟! ليس أحدٌ أفضلَ عند اللهِ مِن مُؤمنٍ يُعَمَّرُ في الإسلامِ؛ لتَسبيحِه وتَكبيرِه وتَهليلِه"، أي: إنَّ ذلك فضْلُ طولِ العُمرِ وزِيادةِ العَملِ مع إحسانِه؛ لأنَّه لا يَزالُ يأتي بالحَسَنِ من الأعمالِ، وتُدَّخَرُ له، وهذا مُوافِقٌ لِمَا أخرَجَه الترمذيُّ أنَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "خيرُ النَّاسِ مَن طال عُمرُه وحسُنَ عمَلُه"
وفي الحديثِ: بَيانُ فَضْلِ العمَلِ الصَّالحِ المصحوبِ بالنِّيَّة الصَّالحةِ، وأنَّه يَرفَعُ صَاحِبَه في الدَّرجاتِ.
وفيه: بَيانُ فَضْلِ طُولِ العُمُرِ مَع حُسْنِ العَملِ
. الدرر السنية..


التعديل الأخير تم بواسطة أم أبي التراب ; 05-27-2021 الساعة 01:05 AM
رد مع اقتباس