عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 05-15-2011, 01:32 AM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
مشرفة قسم الحديث
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 2,679
افتراضي

قال ابن القيم رحمه الله:
~~~~~~~~~~~
(لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام, عزم على تغيير البيت,
ورده على قواعد إبراهيم, ومنعه من ذلك
–مع قدرته عليه-
خشية وقوع ماهو أعظم منه
مع عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام,
وكونهم حديثي عهد بكفر)
(31).
3- كما امتنع صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين, فقد ابتلي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة بالمنافقين, ورغم أن كيدهم ومكرهم
كان يفوق كيد ومكر الكفار فقد امتنع صلى الله عليه وسلم عن قتلهم
لكي لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه,
ولأن قتلهم ذريعة إلى النفور من الإسلام,
فهذه المفاسد أكبر من مصلحة قتلهم.

وباستقراء مثل هذه الأحكام فهم الفقهاء أن مقصود الشارع
عند تزاحم المصالح مع المفاسد,
إنما يتحقق بمراعاة الجانب الأغلب.

قال ابن تيمية رحمه الله:
~~~~~~~~~~
(القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت,
فإنه يجب ترجيح الراجح منها...
فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل
مصلحة ودفع مفسدة
فينظر في المعارض له, فإن كان الذي يفوت من المصالح
أو يحصل من المفاسد
أكثر لم يكن مأموراً به بل يكون محرماً إذا كانت
مفسدته أكثر من مصلحته)
(32).
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله:

(تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود وحسن, ودرء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن)(33).
وقال الشاطبي:

(فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على
مقتضى ما غلب, فإذا كان الغالب
جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفاً,
وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفاً)
(34).
ومن خلال هذه الأدلة وتلك الأقوال ترى ثبوت
هذا الضابط, وهو ضابط مهم خصوصاً في عصرنا الذي يندر فيه أن
تجد مصلحة دون أن تزاحمها مفسدة, نظراً لغلبة الهوى
وامتناع كثير من الناس عن الاستضاءة بنور الوحي,
فيجد المسلم نفسه في مواقف كثيرة محرجاً,
تتجاذبه جهتان متناقضتان:
جهة الدين الذي يحرم عليه كذا وجهة الدنيا التي
تقعسه عن هذا الواجب.

بل إن التزاحم بين المصالح والمفاسد قد يكون
داخل الجهة الواحدة بأن تتزاحم
مصلحة دينية مع مفسدة دينية أو مصلحة
دنيوية مع مفسدة دنيوية,
إلا أن تزاحم ما هو دنيوي مع ما هو أخروي
هو الذي يقلق الناس المتدينين كثيراً
لخوفهم من ارتكاب المحظور الشرعي, لذا فإن
امتلاك موازين الترجيح في المواقف التي يتزاحم فيها الصلاح بالفساد
أمر مهم بالنسبة للمسلم وخاصة الدعاة, وإلا بقي
دائماً محتاراً لا يدري ماذا يقدم وماذا يؤخر.

وهذه الموازين هي نفسها موازين الترجيح بين المصالح المتفاوتة أو بين المفاسد المتفاوتة.
ومن الأمثلة التطبيقية لهذا الضابط:
~~~~~~~~

1- أن إذا كانت كفة المصلحين مرجوحة فلا ينبغي
الخروج على أئمة الجور,
لأن البقاء تحت ظل حكم جائر يخل بمصالح حاجية,
بينما الخروج عليه يفوت مصالح ضرورية,
إذ سيؤدي إلى إتلاف نفوس الثائرين,
لذا يحسن بالفئات المصلحة
في الأمة
أن تهتم بالدعوة كما حصل لبعض
الفرق الإسلامية
التي خرجت على أئمة الجور
فتسببت بخروجها في أضعاف أضعاف ماكانوا عليه من الجور,
والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن
(35).
2- ومن الأمثلة التطبيقية أيضاً في وسائل الدعوة ما سبق من مثال:
المشاركة في بعض وسائل الإعلام المتضمنة
لكثير من المفاسد, فمما ينبغي دراسة الأمر في واقع المصالح
المرجوة والمفاسد المترتبة عليها, وأي جهة غلبت يعمل به.
~~~~~~~~~~~
3- ومن الأمثلة أيضاً: بعض المشاريع المشتركة مع غير المسلمين مثل المشاريع الإغاثية
فهذه أيضاً خاضعة لجرد المصالح والمفاسد الآتية والمستقبلية, وقد لا تأخذ حكمًا مطردًا
لكن ينبغي التأكيد على توضيح المصالح والمفاسد
بوضوح ليبنى الحكم بناءً سليماً, ويتخذا الموقف السليم.

الضابط الرابع:
جهة المفسدة أولى بالدرء عند تساوي
المصالح مع المفاسد.

إذا تساوت المصالح مع المفاسد,
فإن تمكنا من تحصيل المصلحة ودرء المفسدة في آن واحد فحسن,
وإن لم نتمكن من الجمع بين التحصيل والدرء,
قدمنا دفع المفسدة على جلب المصلحة ولو
نجم عن ذلك حرمان
من منافع عملا بقاعدة:
(
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)
(36).
ومن الأمثلة التي ذكرها العلماء لهذه القاعدة:
~~~~~~~~~~~
أ‌- دفع الموت عن النفس بموت الغير,
كأن يهدد شخص بالقتل إن لم يقتل غيره, فهنا تساوت مصلحة
الحفاظ على النفس مع مفسدة إزهاق نفس الغير, لكن
بما أن القتل مجمع على تحريمه,
والصبر مطلوب في حق من أكره على على ذلك,
فإن درء قتل الغير مقدم على درء قتل النفس
(37).

~~~~~~~~~~~~

ب‌- إذا كان تصرف الجار في ملكه يؤدي إلى
إيذاء جيرانه
كاتخاذ فرن يؤذيهم بدخانه أو معصرة يؤذيهم برائحتها
أو مطحنة تؤذي بضجيجها,
منع من ذلك,
لأن في هذه الأعمال مصالح حاجية لنفسه,
ولكنها تؤدي إلى مفاسد مخلة بحاجات جاره, والمفاسد
إذا تزاحمت مع المصالح
وكانت في درجة واحدة درئت المفاسد.

ومن الأمثلة على تطبيق هذه القاعدة:
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح, في الدعوة ووسائلها:

1- عند وجود ابن أو تلميذ أو أي مدعو
متساهل في بعض الأحكام الشرعية وعند أمره
أو نهيه سيتعدى
أذاه إلى الآخرين, فهنا تترك مصلحة دعوته وأمره لأنها
ستؤدي إلى مفسدة عظمى
وهي التعدي على الآخرين, فدرء المفسدة مقدم
على جلب المصلحة.
~~~~~~~~~~
2- عند استخدام وسائل متأرجحة بين الحل والحرمة
من المستجدات للدعوة,
مثل بعض الأناشيد التي لا تختلف على
الأغاني المحرمة
إلا بأشياء يسيرة, لكن عند استخدامها ستؤدي
إلى مفاسد منها:
فتنة المشاهدات, أو المستمعات,
والتساهل في الوصول إلى الأغاني المحرمة,
فلا شك أن المصلحة المدعاة هنا
باستخدامها تترك بسبب المفاسد المترتبة عليها فدرء
المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

~~~~~~~
وبناء على ما سبق فعلى الدعاة إلى الله تعالى
التحلي بهذا الفقه العظيم فقه الموازنة
بين المصالح والمفاسد لأن ذلك يجعل الداعية يحصل
في دعوته مصالح عظيمة, ويدفع مفاسد كثيرة.

وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك
من المصلحة الشرعية, والمفسدة الشرعية, فقد يدع واجبات,
ويفعل محرمات, ويرى ذلك من الورع,
كمن يدع
الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً,
ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور, ويرى ذلك من الورع
(38).

~~~~~~~~~~~~

* النتائج المترتبة على الإخلال بهذه القاعدة.
إن غياب فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد عند بعض
الدعاة طلبة العلم, جعلهم يفعلون أموراً
فيجلبون بها مفاسد, ويفوتون مصالح, وهو يظنون أنهم يحسنون صنعا.

فكم من مصلحة فاتت,
أو مفسدة أحدثت باسم الدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,
أو باسم الإنكار على أهل البدع.

فانظر إلى الذين كانوا يقتلون ويؤذون المسلمين
والمسلمات والمعاهدين باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الجهاد
–كما زعموا-
فكم سببوا من مفاسد, وكم فوتوا من مصالح, وحسبك من مفسدة كبرى
وهي الصد عن الإسلام والمسلمين,
وحسبك من تفويت مصلحة كبرى, وهي عدم تقدم الدعوة إلى الله
(39).
وبناء على ذلك يمكن ذكر بعض
النتائج السلبية المترتبة على الإخلال بهذه القاعدة:
~~~~~~~~~~~~~~
1- تفويت مصالح عظمى ومن أعظمها عدم وصول الإسلام الحق إلى الناس.
2- حصول مفاسد كبرى من القتل والاعتداء على الأعراض والأموال وهذا ظاهر بوضوح
لمن تأمل في أساليب من ينتهج التغيير بالقوة.

3- تمييع الدين والتساهل فيه وتتبع الرخص وهذا ظاهر
فيمن غلب المصالح الجزئية على ماهو أكبر,
ولم يتحمل مخالفة الناس عند رؤيته لغلبة الفسق وأصحابه.
4- عدم الوصول إلى النتائج الإيجابية المثمرة
المرجوة لاختلاط المفاهيم وتضارب الأعمال,
وتناقض المناهج, وذلك لغلبة النظرة الأولية في تقدير المصالح والمفاسد.

5- اختلال المفاهيم الشرعية لأن النظرة لم تكن مبنية
على الفهم السليم
للنصوص الشرعية والقواعد العلمية.

6- وضع الأدلة الشرعية في غير موضعها الصحيح
ولي أعناقها, وإغفال بعضها وبخاصة مالم يوافق
ما يريده المستدل, وهذا ظاهر عن تأمل
في بعض المناهج الدعوية عند اتخاذ موقف أو نازلة
من النوازل والدارس للمواقف حول الأحداث الأخيرة
في البلاد الإسلامية يدرك هذا بوضوح.

7- تأخر الدعوة – بمفاهيمها الشمولية وأفرادها- ورجوعها
إلى الوراء نتيجة قيامها على عدم التوازن في المصلحة والمفسدة.

8 – خروج قيادات دعوية، ومفتين غير مؤهلين
وذلك لعدم فقههم التطبيقي لهذه القاعدة
فيضلون ويضلون.

~~~~~~~
وأخيراً: أقول: إن من أعظم ما تحتاجه الدعوة في هذا
الوقت ومن أعظم ما يحتاجه الدعاة دراسة
هذه القاعدة بتأمل وتدبر, وبفهم وتطبيق, وأن يعمل لذلك البرامج والدورات النظرية والتطبيقية,
وإذا كان علماؤنا وأسلافنا بذلوا جهوداً جباره
في إبراز هذه القاعدة وتطبيقها في الأحكام,
فعلى علماء هذا العصر ودعاته أن يستفيدوا من ذلك الجهد بالتطبيق في الواقع الدعوي كي تسير
السفينة إلى ساحل النجاة.

لا أزعم أن هذه الصفحات كافية وإنما هي بيان للأهمية.
وقد ذُهلت عندما قرأت بعض الرسائل والمقالات التي
أدت ببعض المنتهجين للتغيير بالقوة
إلى إلغاء هذه القاعدة,
بل والتقليل من شأنها, فتساءلت ماذا يريد هؤلاء وأمثالهم؟؟!.

والذهول نفسه أو قريب منه لمن يغلب المصالح الجزئية
أو الفردية أو لا يزيد عمله ودعوته وفق
المصالح والمفاسد الشرعية فانتهجوا منهج التساهل غير المنضبط
فأدّى بهم إلى تغيير كثير من الأحكام بل إلى
السخرية من بعضها كمن يرى أن بعض الأحكام
الشرعية كالاهتمام بأمر اللباس أو اللحية أو حجاب المرأة أو التساهل
في التشبه بالكفار قشور لا يجب النظر إليها.

ويبقى كلمة أخيرة وهي إجابة على سؤال مهم،
وهو سؤال تطبيقي وهذا السؤال يقول:
مَنْ الذي يقدر المصالح والمفاسد، أو غلبة أحدهما على الآخر؟ والجواب هم أهل الفقه والنظر والعلم والدراية والخبرة بعد الاستعانة بأهل الاختصاص إذا كانت القضية أو المسألة تحتاج إلى مختصين.

وبناء على هذا فليس لكل من سلك طريق الدعوة مؤهل لهذا النظر،
ولا سيما في الحوادث الكبرى، والنوازل العظمى
التي تعم الأمة بأكملها.
كما حدث في الحوادث الكبرى في هذا الزمن
وأحدثت تأثيرًا عظيمًا تباينت فيه الآراء واستعجل مستعجلون
حسبوا أنهم على فقه ودراية، ولمزوا غيرهم،
وتعالت أصواتهم وأثرت على الناس، وما أن يذهب وقت وإلا ويستبين لهم
قبل غيرهم أن نظر أهل العلم كان هو الحق والصواب، وما أوتوا
هم إلا من قبل استعجالهم وقلة نظرهم وضعف تقديرهم للمصالح والمفاسد.

من كتاب: قواعد منهجية في الدعوة إلى الله
للشيخ: فالح بن محمد الصغير
* * *
(1) إعلام الموقعين: (3/3).
(2) الموافقات: (2/37-40).
(3) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: (20/48).
(4) فقه الأولويات: ص 197,198.
(5) سورة التوبة: 19.
(6) أخرجه مسلم, كتاب الإمارة, باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى, رقم (4871).
(7) صحيح مسلم, كتاب الإمارة, باب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل, رقم: (4938).
(8) قواعد الأحكام: (1/7).
(9) إعلام الموقعين: (3/279).
(10) قواعد الأحكام: (1/60).
(11) أصول الفقه: ص30.
(12) إعلام الموقعين: (3/191).
(13) إعلام الموقعين: (3/9).
(14) انظر: قواعد الأحكام: (1/7).
(15) سورة البقرة: (227).
(16) سورة الكهف: (79 - 82).
(17) صحيح مسلم, كتاب الإمارة, باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع, رقم (1854).
(18) إعلام الموقعين: (3/6-7) بتصرف.
(19) أخرجه البخاري, كتاب الوضوء, باب صب الماء على البول في المسجد, رقم (220).
(20) شرح النووي على صحيح مسلم: (3/190).
(21) مجلة الأحكام العدلية, مادة (25).
(22) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 83
(23) فقه الأولويات ص214.
(24) مجموع الفتاوى (20/57).
(25) إعلام الموقعين (3/7).
(26) الفتاوى الكبرى (1/265).
(27) الرياض الناضرة والحدائق النيرة ص230.
(28) سورة البقرة 219.
(29) انظر: تفسير ابن كثير (1/373).
(30) أخرجه البخاري, كتاب العلم, باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في اشد منه (126).
(31) إعلام الموقعين (3/6-7).
(32) الاستقامة (2/216).
(33) قواعد الأحكام (1/4).
(34) الموافقات (2/26).
(35) فقه الأولويات ص227, إعلام الموقعين (3/59).
(36) انظر: الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/105) وللسيوطي ص97, ولابن نجيم ص 90.
(37) قواعد الأحكام (1/79-83).
(38) مجموع الفتاوى (10/512), (30/193).
(39) انظر: منهج الدعوة في ضوء الواقع المعاصر ص37.



رد مع اقتباس